افتتاحية – أين نحـن مـن أمـة مكـارم الأخـلاق؟ !


أمة الإسلام هي أمة مكارم الأخلاق بامتياز، هكذا أرادها الله تعالى حينما جعل رسوله على خلق عظيم، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم :4 )، ليؤكد بدوره أن بِعثته جاءت إتماما لمكارم الأخلاق “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ‏” (أخرجه مالك في الموطأ)، وليُبيِّن أن عمود الدين كله قائم على حسن الخلق في التعامل مع الآخر “إن من خيركم أحسنكم خلقاً” (أخرجه البخاري)، وأن جزاء ذلك كله القرب من مجلسه يوم القيامة: “إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا الْمُوَطَّؤون أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُون” (أخرجه الترمذي)، ومن ثَمّ شاع القول المأثور: “الدين المعاملة”.
ومن المعلوم أن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به الرسول كان يتجلى في كل جوانب الحياة التي يمكن أن يؤثِّر فيها الخلق السوي، بدءاً بالرفق والرأفة والرحمة في التعامل، وهي صفات تظهر في سلوك الإنسان ومعاملاته بشكل يومي: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159)؛ الرأفة والرحمة في التعامل مع جميع بني البشر على اختلاف أطيافهم، وخاصة الطرف الضعيف في أي معادلة: (الصبي، الشيخ، المرأة…)، بل حتى بالحيوان سواء في المحافظة على حياته أحسنَ حفظ؛ “عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ” (أخرجه مسلم)، أو في إحسان الذبح والقتلة في الحالة الأخرى، “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ” (أخرجه مسلم)، ثم بعد ذلك الرفق بكل شيء حتى في النباتات والجمادات وطريقة إخضاعها لنفع الإنسان “مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ” (مسند الإمام أحمد).
وبحضور هذه الصفات الخلقية في تعامل الإنسان اليومي ينعكس ذلك إيجابا على سلوكاته الأخرى فيصبح قرآنا يمشي على الأرض -كما كان شأن النبي حينما قالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ” (صحيح مسلم)- لِيؤَثِّر في الآخرين بخلقه السوي الرفيع دون أن يتأثر بأخلاقهم إن كانت سيئة، فيكون بذلك قدوةً حقيقية لهم، وداعية بسلوكه إلى الدين القويم، قبل أن يكون داعية بقوله.
ولعل نظرة بسيطة إلى تاريخنا تُبيّن بوضوح أن شعوبا كثيرة (ماليزيا وإندونسيا مثلا)، اعتنقت الإسلام بسبب ما رآه أفرادها في المسلمين الذين خالطوهم من أخلاق سامية، وخاصة في المعاملات التجارية، فدخلوا في دين الله أفواجا. ومن الطريف أن هذه الشعوب احتفظت بهذه الأخلاق التي أخذتها سوية سليمة من الانحراف، حتى إن العديد من حجاجنا إلى بيت الله الحرام يضربون بهؤلاء المثل في استقامة الخلق دون غيرهم.
وإن مما أصيبت به أمتنا في العصر الحاضر هو كثرة القول وقلة العمل، أو ربما انعدامه في كثير من الأحيان، فلا نجد إلا ما انحرف من الأخلاق والقِيم والعادات، حتى أصبحت صورة الإسلام والمسلمين يشوبها ما يشوبها من تشويه، ليس عند الآخرين فحسب، ولكن أيضا فيما بين المسلمين أنفسهم.
وإن تمسك العلماء والدعاة أولا، وجميع المسلمين رعاةً ورعايا ثانيا، بأخلاق الإسلام في السلوك والحوار والمعاملة والتربية، وفي التجارة والصناعة والإنتاج والتعليم، وفي السياسة والاقتصاد وفي غير ذلك، إن التمسك بذلك كله قمين بأن يعيد أمتنا إلى النهج السوي الذي كانت عليه، لتكون أمة الأخلاق بامتياز، ولتكون حقّا خير أمة أخرجت للناس. وصدق الشاعر في قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت…. فـإن هُمُوُ ذهبــت أخـلاقهم ذهــبوا..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>