من درر السلف: خطبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه


عن يَعْقُوب بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: هَذِهِ خُطْبَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ يَوْمَ الْجَابِيَةِ، فَقَالَ:
“أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ، الَّذِي بِطَاعَتِهِ يُكْرَمُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَبِمَعْصِيَتِهِ يُضَلُّ أَعْدَاؤُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِهَالِكٍ هَلَكَ مَعْذِرَةٌ فِي تَعَمُّدِ ضَلالَةٍ حَسِبَهَا هُدًى، وَلا فِي تَرْكِ حَقٍّ حَسِبَهُ ضَلالَةً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَا تَعَاهَدَ الرَّاعِي مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يَتَعَاهَدَهُمْ بِالَّذِي للَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ وَظَائِفِ دِينِهِمُ الَّذِي هَدَاهُمُ اللَّهُ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَكُمْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَنْ نُقِيمَ فِيكُمْ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَرِيبِ النَّاسِ وَبَعِيدِهِمْ، ثُمَّ وَلا نُبَالِي عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَمَنَّوْنَ فِي دِينِهِمْ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ، وَنُجَاهِدُ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَنْتَحِلُ الْهِجْرَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ أَقْوَامٌ لا يَحْمِلُونَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي، وَإِنَّ لِلصَّلاةِ وَقْتًا اشْتَرَطَهُ اللَّهُ فَلا مُصْلِحَ إِلا بِهِ، فَوَقْتُ صَلاةِ الْفَجْرِ حِينَ يُزَايِلُ الْمَرْءَ لَيْلُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَذكر أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، قَالَ: وَيَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ هَاجَرْتُ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ، وَيَقُولُ أَقْوَامٌ: جَاهَدْنَا، وَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُجَاهَدَةُ الْعَدُوِّ وَاجْتِنَابُ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُقَاتِلُ بِطَبِيعَتِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ فَيَحْمِي، فَافْهَمُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ، فَإِنَّ الْجَرِبَ مَنْ جَرِبَ دِينَهُ، وَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُبْتَدَعَاتُهَا، وَإِنَّ الاقْتِصَادَ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي بِدْعَةٍ، وَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً مِنْ سُلْطَانِهِمْ، فَعَائِذٌ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكَنِي، فَإِيَّاكُمْ وَضَغَائِنَ مَجْبُولَةً وَأَهْوَاءً مُتَّبَعَةً وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّ فِيهِ نُورًا وَشِفَاءً، فَقَدْ قَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ فِيمَا وَلانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُمُورِكُمْ، وَوَعَظْتُكُمْ نُصْحًا لَكُمْ، وَقَدْ أَمَرْنَا لَكُمْ بِأَرْزَاقِكُمْ، فَلا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلِ الْحُجَّةُ لَهُ عَلَيْكُمْ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتِغْفُر اللَّهَ لِي وَلَكُمْ”.
المنتظم في تاريخ الأمم لابن الجوزي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>