مقاصدية قاعدة: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»


في الحلقة السابقة تناول الأستاذ معنى القاعدة من شرح ألفاظها ومعناها الإجمالي وأصلها، وفي هذه الحلقة يتابع الباحث بيان جوانب مقاصدية هذه القاعدة ومستثنياتها، فإذن ما هي مقاصدية هذه القاعدة؟ وما هي استثناءاتها؟

الفرع الثالث: مقاصدية القاعدة.
تهدف هذه القاعدة إلى تحقيق مقاصد متعددة منها:
أولا: الاحتياط للحكم: لأن الحكم وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فلا بد من الاحتياط له؛ تحقيقا لمقصده والغاية من تشريعه؛ ولهذا قال العز – رحمة الله عليه -: «وأما نهي الحاكم عن الحكم في حال الغضب الشديد فاحتياط للحكم…» (قواعد الأحكام 2/34)
ثانيا: دفع مفسدة الغلط في الأحكام: بسبب الغضب وما في معناه؛ لأن الغضب الشديد يفسد الفكر ويحجب نور العقل. قال المهلب : «سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار» (فتح الباري، كتاب: الأحكام، 4/147). وقال ابن دقيق العيد –رحمة الله عليه- : «النص وارد في المنع من القضاء حالة الغضب، وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال النظر، وعدم استيفائه على الوجه. وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل منه ما يشوش الفكر، كالجوع والعطش وهو قياس مظنة على مظنة، فإن كل واحد من الجوع والعطش مشوش للفكر، ولو قضى مع الغضب والجوع لنفد إذا صادف الحق، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك، وكأن الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس، وصعوبة مقاومته». وقال الإمام محمد الطاهر بن عاشور –رحمة الله عليه- : «الحنق = (شِدَّةُ الاغْتِيَاظِ) والغضب تختل معهما الروية، وينحجب بهما نور العقل» (مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص: 207.).
ثالثا: تحقيق مصالح نصب الحُكّام المرجوة من أحكامهم : لأن منع الحاكم من الحكم في الحال الذي يحول دون استقامة نظره في الأدلة والحجج، هو حفظ وصيانة للمقاصد التي شرِّعَتْ ولاية القضاء لأجلها، ألا وهي إعطاء كل ذي حق حقه، وإرجاع الحقوق لأصحابها وتحقيق العدل وردع الظالم وإنصاف المظلوم…
ولهذا قال الشافعي : «ومعقول في قول رسول الله : (لا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ وَلا يَقْضِي الْقَاضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) (1)، أنه أراد أن يكون القاضي حين يحكم في حال لا يتغير فيها خلقه ولا عقله؛ والحاكم أعلم بنفسه، فأي حال أتت عليه تغيَّر فيها عقله أو خلقه، انبغى له أن لا يقضي حتى يذهب، وأي حال صار إليه فيها سكون الطبيعة واجتماع العقل حكم، وإن غيَّره مرض أو حزن أو فرح أو جوع أو نعاس أو ملالة ترك» (الأم للإمام الشافعي 8/407)
الفرع الرابع: مقاصدية الاستثناء من القاعدة.
ويُستثنى من هذه القاعدة ما يلي:
أ - الغضب اليسير الذي لا يمنع من سداد الرأي واستقامة الحال.
ب - ما لا يؤثر فيه الغضب وما في معناه، كالأحكام المعلومة المعروفة التي لا تفتقر إلى فِكر ونظر؛ ولهذا قال الغزالي – رحمة الله عليه – (ت 505هـ): «إن الغضب اليسير – الذي لا يمنع استيفاء النظر – لا يُحَرِّم» (شفاء الغليل للغزالي، ص: 37). وهذا ما أكده العز – رحمة الله عليه – حين قال: «وقد ضُبط غضب الحاكم بما يمنع من استيفاء النظر» (قواعد الأحكام 2/21)، بمعنى أن الغضب الذي لا يحول دون استيفاء النظر لا يمنع القاضي من الإقدام على الحكم. ثم قال – رحمة الله عليه – بعد ذلك: «ولا يُنهى الحاكم الغضبان عن الحكم بما هو معلوم له، إذ لا حاجة به إلى النظر فيه. مثاله: أن يدعي إنسان على إنسان بدرهم معلوم، فينكره، فلا يكره للحاكم الحكم بينهما مع غضبه، إذ لا يُحتاج في هذه المسألة إلى نظر واعتبار، بل حكمه في حال غضبه كحكمه في حال رضاه» (قواعد الأحكام 2/21.).
ومقصد هذا الاستثناء يتمثل في التعجيل بالحكم تحصيلا لمقصده، المتمثل في تحقيق مصلحة المتخاصمين أوالمتنازعين، إما بجلب المنفعة أو درء المفسدة؛ وذلك من خلال التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها، وعدم حرمانهم من الانتفاع بها، ومنع الظالم من ظلمه. وهذا هو حقيقة العدل؛ لأن «العدل: عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه» (تفسير المنار لرشيد رضا، 5/140)، ولهذا قال العز – رحمة الله عليه –، وهو يتحدث عما يجب على الفور: «وكذلك الحكم بين الخصوم، ويجب سلوك أقرب الطرق فيه دفعا لظلم أحد الخصمين على الفور» (قواعد الأحكام 1/364). وقال في موضع آخر: «وإنما وجب الحكم بين الخصوم على الفور؛ لأن أحد الخصمين ظالم مبطل، وظلمه مفسدة، ولو تأخر الحكم لتحققت المفسدة» (قواعد الأحكام 1/366).
وقد أكد الإمام محمد الطاهر بن عاشور –رحمة الله عليه– على هذا المقصد بقوله: «مقصد تعجيل الحقوق إلى أصحابها… هو مقصد من السمو بمكانة، فإن الإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعينه بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهوره يثير مفاسد كثيرة.
منها: حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقه وذلك إضرار به.
ومنها: إقرار غير المستحق على الانتفاع بشيء ليس له وهو ظالم للمحق…
ومنها: استمرار المنازعة بين المحق والمحقوق، وفي ذلك فساد حصول الاضطراب في الأمة…
ومنها: تطرق التهمة إلى الحاكم في تريثه، بأنه يريد إملال المحق حتى يسأم متابعة حقه، فيتركه، فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمه، فتزول بذلك حرمة القضاء من نفوس الناس، وزوال حرمته مفسدة عظيمة» (مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، ص: 201).
الخاتمة:
وأخيرا، فهذا ما يسر الله تعالى كتابته في هذه الدراسة المتواضعة، فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل، وما كان فيها من خطإ فمني ومن الشيطان. وقد خلصت في نهايتها إلى جملة من النتائج، منها:
أولا: أن القواعد الفقهية هي أحدى ضمانات تحقيق مقاصد السياسة الشرعية عامة.
ثانيا: أن القاعدة موضوع الدراسة تقصد إلى تحقيق مقاصد ولاية القضاء؛ من خلال سد الذريعة أمام كل ما من شأنه التشويش على عمل القضاة.
ثالثا: أن الغضب في القاعدة ليس منهيا عنه لعينه، بل لمعنى يتضمنه؛ وهذا يصدق على الحاقن والجائع وكل ما من شأنه أن يشوش الفكر والنظر.
رابعا: أن الواجب على السلطات توفير الظروف المناسبة؛ لتمكين القضاة من ممارسة أعمالهم في حال يحصل لهم فيه اجتماع العقل وحسن النظر والفكر.
وبالله التوفيق.

ذ. سعيد الشوِيَّ
———–
1 – لم أقف عليه بهذا اللفظ: وفي فتح الباري بلفظ «وفي رواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير بسنده: (لا يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ لا يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ)». الفتح الباري لابن حجر العسقلاني، كتاب: الأحكام، 4/147.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>