تعتبر ولاية القضاء من أهم ولايات السياسة الشرعية؛ إذ بها يتحقق العدل، الذي يعتبر من بين المقاصد التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحصيلها وحفظها. ولتحقيق هذا المقصد العظيم، أحاط الشارع الحكيم عمل القضاة وتصرفهم بجملة من القواعد الفقهية، ومن ضمنها هذه القاعدة النصية موضوع الدراسة، والتي سأتناول الحديث عنها من خلال الفروع التالية.
الفرع الأول: معنى القاعدة.
أولا: شرح ألفاظ القاعدة.
- يقضي: فعل مضارع من قضى، وتدل هذه الكلمة في اللغة على معان كثيرة– ترجع كلها تقريبا إلى معنى إحكام الأمر وإنفاذه وإنهائه وانقطاعه – منها: الأجل، والفصل، والمضي، والوجوب، والإعلام، والوصية، والخلق، والفعل، والإبرام، والعهد، والأداء… فكل ما أحكم عمله وأتم وختم وأدي وأوجب وأعلم وأنفذ وأمضي فقد قضي وفصل(مقاييس اللغة).
وقال ابن منظور –رحمة الله عليه–: «يُقَالُ: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ وَفَصَلَ. وَقَضَاءُ الشَّيْءِ: إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ. وَقَالَ”الزُّهْرِيُّ : الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ. وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ عَمَلُهُ أَوْ أُتِمَّ أَوْ خُتِمَ أَوْ أُدِّيَ أَدَاءً أَوْ أُوجِبَ أَوْ أُعْلِمَ أَوْ أُنْفِذَ أَوْ أُمْضِيَ فَقَدْ قُضِيَ»(لسان العرب).
- القاضي: اسم فاعل من قضى، وسُمِيّ بهذا الاسم؛ لأنه يحكم بين المتخاصمين، ويفصل في القضايا التي تعرض عليه.
و«القاضي في عرف الشرع، يصدق على من له وصف حكمي يوجب نفوذ حكمه»(شرح حدود ابن عرفة).
- غضبان: صفة على وزن فعلان، وهو من صيغ المبالغة، بمعنى الممتلئ غضبا. و«الغضب: نقيض الرضا». وهو نوعان: «محمود ومذموم، فالمذموم: ما كان في غير الحق، والمحمود: ما كان في جانب الدين والحق» (لسان العرب).
وقد عرف ابن رجب الحنبلي –رحمة الله عليه– (ت795هـ) الغضب بقوله: «والغضب هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش…»(حصول الكرم بتهذيب جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 71).
ثانيا: المعنى الإجمالي للقاعدة.
يدور معنى هذه القاعدة حول النهي عن القضاء في حالة الغضب وما في معناه؛ لأن الغضب الشديد يُطفئ نور العقل، ويجعل القاضي في حالة اضطراب تزول معها الروية وحُسن الفِكْر والنظر في الأدلة والبَيِّنات؛ مما قد يخرجه عن الصواب والحق والسداد في أمر قضائه وحكمه.
قال الإمام الغزالي –رحمة الله عليه-: «إن الغضب ليس سببا للتحريم، ولكن سبب التحريم يتضمنه الغضب من اختباط العقل، وما يعتريه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والاهتداء إلى وجه الصواب، حتى إن الغضب اليسير المنفك عن هذا الأثر لا يُحَرِّم؛ وحتى يلحق به الحاقن والجائع والذي توالى عليه ألم مبرح مدهش، وغير ذلك من الأحوال المشوشة لنظر العقل»(شفاء الغليل للغزالي ص 33). ثم قال: «فإنا نقول: الحكم معلل بالغضب، ولكن لا لعينه، بل لمعنى يتضمنه. فأصل التعليل قائم ولكن جعل الغضب – بحكم الدليل – كناية عن ضعف العقل؛ لأنه يلازمه غالبا فلم يكن ذكره لغوا، بل كان مفيدا معتبرا بهذا الطريق»(شفاء الغليل للغزالي ص 34).
وإذا حكم القاضي وهو غضبان، فإن وافق الحق والصواب، نفذ حكمه مع كراهة ذلك في حقنا؛ لأن النهي عن الغضب، لم يُنه عنه لعينه، وإنما نُهي عنه لغيره، ولهذا أدرج العز – رحمة الله عليه – حكم الحاكم حال الغضب، ضمن أمثلة ما لا يقتضي النهي فيه فساد المنهي عنه – كما هو واضح في السياق الثاني الذي وردت فيه القاعدة –.
وهذا ما استنتجه الإمام النووي – رحمة الله عليه – من حديث اللقطة(صحيح مسلم حديث 1722)، حيث قال: «وفيه جواز الفتوى والحكم في حال الغضب، وأنه نافذ، لكن يكره ذلك في حقنا، ولا يكره في حق النبي ؛ لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف علينا. والله أعلم». وهذا ما أكده ابن حجر –رحمة الله عليه– بقوله: «لو خالف فحكم في حال الغضب صح إن صادف الحق مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وقد تقدم أنه قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير(صحيح البخاري حديث 2359)، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره؛ لعصمته ، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا»(فتح الباري).
الفرع الثاني: أصل القاعدة.
أصل هذه القاعدة الحديث الذي رُوي عن”عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، أنه قَالَ: كَتَبَ”أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ بِأَلا تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»(أخرجه البخاري). وفي رواية أخرى: «لا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (أخرجه مسلم).
يتبع
ذ. سعيد الشوِيَّ