اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني (18)


تابع البنية اصطلاحا : مناقشة الشطر الثاني من العنوان

أثرنا في الحلقة الماضية من العدد 422 مسألة ثنائية دلالات أشكال بعض الكلمات مدعمة بما يؤكد وجهة نظرنا من الاستشهادات في هذه المسألة ودعونا إلى تتبع هذه الظاهرة في كل الأبنية. ونظرا لما يتطلبه هذا التتبع من سعة المجال، فإننا نؤجله إلى ما بعد الفراغ من عرض ما تيسر من تعاريف البنية اصطلاحا.
أورد سيبويه هذا المصطلح بكلمات متنوعة الأشكال. منها الأبنية التي هي جمع بنية حيث يقول : “هذا باب ما يُكسّر ممّا كُسّر للجمع، وما لا يُكسّر من أبنية الجمع إذا جعلته اسماً لرجل أو امرأة” (ك3/401). أما بقية المشتقات التي استعملها للدلالة على هذا المعنى فهي المصدر الميمي “مَبْنيا” والفعل الماضي “بُني” مبنيا للمفعول، ثم المصدر “بناء” وغير هذا من المشتقات، ويستفاد من هذا الاستعمال لأشكال متنوعة من الكلمات أن هذا المفهوم متأصل بين مصطلحات قواعد اللغة العربية. والدليل على هذا أن سيبويه استعمله للدلالة على مفاهيم عامة من القواعد مثل قوله : “هذا باب ما بنت العرب من الأسماء والصفات من بنات الخمسة” 4-5/ 301″ وعلى هذا الاهتمام بنى الدارسون فيما بعد تعاريفهم للبنية اصطلاحا، مع العلم أن شكل الكلمة الذي حظي بهذا التعريف لا يمثل إلا شكلا واحدا من بين أشكال الكلمات التي استعملها سيبويه في هذا المجال. يقول الكفوي : “والأبنية: هي الحروف مع الكلمات والسكنات المخصوصة” . والصيغة : هي الهيئة العارضة للفظ باعتبار الحركات، وتقديم بعض الحروف على بعض، وهي صورة الكلمة، والحروف مادتها. (الكليات للكفوي ص 560)، وقد عرف الاستربادي البنية اصطلاحا بتفصيل في سياق شرحه مصطلح التعريف عند أبي الحاجب نورده مفصلا مع إضافة بعض الشروح بين معقوفتين [..] لأجل تبسيط بعض الكلمات والعبارات كما يلي :
يقول ابن الحاجب : “التصريف : علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب”(الشافية ص 11).
ويشرح الاسترابادي البنية كما وردت عند ابن الحاجب أعلاه بقوله : قوله : “أبنية الكلم” المراد من بناء الكلمة ووزنها وصيغتها: هيئتها التي يمكن أن يشاركها فيها غيرها، وهي عدد حروفها المرتبة، وحركاتها المعينة وسكونها مع اعتبار الحروف الزائدة والأصلية كل في موضعه، فرجل مثلا على هيئة وصفة يشاركه فيها عَضُدٌ، وهي كونه على ثلاثة أحرف أولها في كل منهما مفتوح وهو الراء في رجل، والعين في عضد، وثانيهما مضموم وهو الجيم في رجل، والضاد في عضد، وأما الحرف الأخير وهو اللام في رجل، والدال في عضد، وكل حرف أخير في الكلمة من هذا النوع من التقعيد فلا تعتبر حركته وسكونه في البناء أي في بناء الكلمة المفردة وفيه نظر، فرجلٌُ بضم اللام منونة ورجلا أو رجلٍ بفتحها أو جرها منونة كذلك على بناء واحد، وكذلك جَمَلٌ على بناء ضَرَب، لأن الحرف الأخير لحركة الإعراب وسكونه، وحركة البناء وسكونه.
وإنما قلنا “يمكن أن يشاركها” لأنه قد لا يشاركها في الوجود كالحِبُك بكسر الحاء وضم الباء، فإنه لم يات له نظير وهذا يعني أن كلمة حِبُك على وزن فِعُل لا وجود لمثلها في اللغة العربية.
قوله : “وإنما قلنا : “حروفها المرتبة” لأنه إذا تغير النظم أي نظم الحروف والترتيب أي ترتيبها بالتوالي : الأول، فالثاني، فالثالث على شكل معين تغير الوزن(أي طريقة النطق بالكلمة) كما تقول : يئس الياء أولا، والهمزة ثانيا/ ثم السين أخيرا على وزن فَعِل هي الميزان الذي تنطق على شكله وهيئته الكلمات في الأصل، مع تغيير حركاتها حسب نوع الكلمات، وعليه فهذا هو أصل ترتيب حروف هذه الكلمة (يَئِسَ) لتدل على المعنى الذي وُضعت له. ولو غيرنا ترتيب حروف هذه الكلمة فقلنا أَيِسَ فإن وزنها هو عَفِل (بحيث تنطق بالعين في أول الكملة : (أيِسَ) وكانت هي الحرف الثاني في وزن الكلمة في الترتيب الأول (يئس)، ثم الفاء بعدها وكانت هي الأولى في الوزن الأول، ولذا نطقنا بكلمة الوزن (عَفِلَ) بدل (فَعِلَ).
قوله : وإنما قلنا “مع اعتبار الحروف الزوائد والأصلية ” [لأن أصل الكلمة في اللغة العربية يكون ثلاثيا، أو رباعيا أو خماسيا أو سداسيا، ولكل نوع ضوابطه، ويمكن أن يزاد على أصل من الأصول حرف أو أكثر لأغراض بنيوية أو تعبيرية معينة، وثمة ضوابط لتمييز الحرف الأصلي من الزائد في بنية الكلمة إذا زادت على ثلاثة أحرف]. لأنه يقال: إن كرَّم مثلا على وزن فعَّل، ولا يقال فَعْلَلَ أو أفْعَل، أو فاعل [فلا يعتبر عدد الحروف فقط في الكلمة لنقول : إنها على وزن معين، بل لا بد من مراعاة مواقع الحروف الزائدة على أحرف الكملة لأصل (فَعَل) لأن كل شكل من أشكال الأبنية المذكورة له مجاله الذي يستعمل فيه رغم توافقها في الحركات المعينة والسكون…الخ).
قوله : وقلنا “كل في موضعه” لأن نحو درهم ليس على وزن قِمَطَرْ لأن الكلمتين متساويتان في عدد الحروف وهي أربعة أحرف في كل منها، لكنهما مختلفتان بالنسبة لمواضع بعض الحركات والسكون على أحرف الكلمتين، فشكل دِرْهَمْ هو : – ْ – أي حركة + سكون+ حركتين. في حين أن قِمَطْر تُشكلت ب: – - ْ – أي حركتين ثم سكون ثم حركة.
هذه هي البنية اصطلاحا بما تعرفه من تشعبات الضوابط.
وثمة نوعان من الملاحظات أولهما أن الشروح التي أوردها الاسترابادي لمفهوم البنية. منها أن الحرف الأخير من الكلمة غير معتبر هنا لأن حركته خاصة بالإعراب أو البناء، ويبدو أن هذا الحكم غير مسلم لسببين:
أ ـ أن حركة الإعراب تكون في المركبات لتبين صنف الكلمات في التركيب كالفاعل والمفعول.
ب ـ أن هذه الحركة في الكلمة المفردة تميز الاسم من الفعل أو الصفة أحيانا. فعند تأملنا للكلمات التالية مثلا : حمد، نسب، حسب، وهي محركة الأحرف الأخيرة بالفتحة فإننا نعتبرها أفعالا. في حين أنها مسكنة الأواخر غير ذلك. والملاحظة الثانية أن هذا التعريف لا يشمل كل أنواع الكلمة الثلاثة بما في ذلك الحرف، وعند التدقيق يمكن استثناء بعض أنواع الأسماء أيضا من هذا التعريف لتعليلات متنوعة. وعليه ينبغي الرجوع إلى أشكال الكلمات التي استعملها سيبويه في هذا المجال لصياغة المصطلح الشامل لهذا المفهوم وقواعد اللغة العربية. والله أعلم بالصواب والأصوب.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>