الخطبة الأولى:
لكي لا يحسب المسلمون أن النصر يمكن أن يكون بمجرد الكلمات والأمنيات،
لكي لا يحسب المؤمنون أنهم يتركون أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ،
لكي يستيقن المخلصون أن سلعة الله لا تنال إلا بالبذل والتضحية،
من أجل هذا وذاك كتب الله عز وجل ألا يصل رسوله إلى مرحلة النصر إلا في خضم الشدائد والمحن، على شدة حب الله تعالى لرسوله.
من أجل هذا وذاك جعل الله عز وجل رسوله نموذجاً للصبر والمثابرة، وتحمل المشاق والصعاب، ليكون للمسلمين على مدى الأجيال القدوة الصالحة والأسوة الحسنة والقيادة الرشيدة.
عباد الله:
ليست الهجرة النبوية مجرد ذكرى تحييها الأمة وتحتفل بها كل عام في يوم أو أيام، ثم تنساها حتى تدور السنة دورتها، إن الهجرة في المقام الأول مبادئ عليا قامت على الإيمان والتضحية، فتمخضت عنها دروس كان أحرى بالأمة أن تستفيد منها في كل لحظة من لحظات حياتها.
لم تكن الهجرة هروبا ولا انكسارا، وإنما كانت انطلاقا وانتصارا، فبها انتصرت دعوة الإسلام، وأخذت طريقها في الانتشار. وبعدها دخل الناس في دين الله أفواجا. ولذلك عبر القرآن الكريم عنها بأنها كانت انتصارا، حيث قال الله جل وعلا: إلاتنصروه فقد نصره الله إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، سورة التوبة.
لقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، مما يمثل معْلما بارزا في تاريخ الإسلام، فبالهجرة ولدت دولة الإسلام، ووجدت أسسه التي حملت هذه الدعوة لتقدمها للعالم كله.
بدأ رسول الله عقب الهجرة مباشرةً يضع الدعائم ويقيم البناء، وكان أول أساس اهتم به عليه الصلاة والسلام الجانب الإيماني والأخلاقي، الذي يهدف إلى توثيق الصلة بالله طبقاً لقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ، (البقرة:21).
ثم تلاه البناء الاجتماعي حيث آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، تجسيداً لقوله عليه الصلاة والسلام: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، البخاري.
ثم البناء السياسي من خلال ما عرف بالوثيقة أو الصحيفة، التي تضمنت مواثيق المعاهدات والحريات والحقوق العامة.
وجدير بالأمة اليوم بل على كل عاقل أن يطلع على تلك الصحيفة من أجل دراستها والاستفادة منها.
ومن الأسس الهامة البناءُ الاقتصادي وتحقق ذلك بإنشاء السوق الإسلامية بالمدينة، حتى لا يقع المسلمون تحت السيطرة الاقتصادية لأعدائهم، فإذا كان للمسلمين اقتصادهم الذي يرتبط بالقيم الإيمانية والأخلاقية في الإنتاج والاستهلاك والتداول والتوزيع والاستثمار فلا بد من سوق خاصة بهم تميزهم عن غيرهم.
ثم هناك البناء العسكري حيث بدأ الرسول يجهز جيشه العسكري ويقوم بتكوين المقاتل المسلم، ذلك أن الأعداء لن يتركوا المسلمين على حالهم، فلا بد من الاستعداد والإعداد، والله عز وجل يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة… .
لولا الهجرة لظلت الدعوة الإسلامية حبيسة في مكة بين جبالها الصم وصناديدها الطغاة،
لولا الهجرة لعاش المسلمون أيامهم في الفتنة يكابدون العذاب ويتساقطون واحدا واحدا في صبر واحتساب، ولما ذاقوا حلاوة النصر.
لولا الهجرة لعاش المسلمون أفراداً بلا أمة، أو أمة بلا وطن.
ولكن الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ما كان أن يتخلى عنه بعد أن تكفل بحفظه، والله يعصمك من الناس ، والذي تكفل بحفظ رسوله سيحفظ دينه ورسالته ويحفظ كل من تمسك بهذا الدين وأخذ بهذه الرسالة.
الخطبة الثانية :
عباد الله: عام جديد فتحت فيه صفحات جديدة من صفحات الحياة، لا يدري الواحد منا ما الله قاض فيها. من سيعيش عامه هذا ومن سينتقل إلى الدار الأخرى.
إن الكيس من الناس من تاب إلى الله واستغفر عما مضى وفات، وشمر وتزود بتقوى الله في ما هو آت.
لنسأل أنفسنا ونحن نقف بمناسبة العام الهجري الجديد:
هل نزداد قربا من الله أم نحن في بعد بعيد؟ هل نزداد من نبل الأخلاق وجميل الأفعال؟ أين نحن من أداء الواجبات وترك المحرمات؟
جدير بنا أن نسأل: كيف حال طعامنا وشرابنا ولباسنا… هل هو من الحلال الطيب المبارك أم من الحرام الخبيث الممحوق؟
كيف هو حالنا في الأعمال والوظائف والأشغال هل نؤدي الأمانة حق الأداء أو على الأقل قدر المستطاع؟ هل يقل غشنا وتنقص الخيانة فينا أم أن ذلك في تزايد مستمر؟
عام يمضي وعام يأتي والعمر ينقضي وإن العاقل من يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
اللهم يسر حسابنا ووفقنا لما تحبه وترضاه
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د.الوزاني برداعي *
—————
* خطيب مسجد الفتح بمنفلوري بفاس