جاء في معجم المعاني:
1 – انتهاز : (اسم) مصدر اِنْتَهَزَ، اِنْتِهازُ الفُرْصَةِ : اِغْتِنامُها …
2 – انتهازي : (اسم) اسم منسوب إلى انتهاز،
عمل انتهازيّ : مَنْ يقتنص الفرص ويستغل أيّة وسائل للمنفعة الشَّخصيّة.
- سياسيّ انتهازيّ: مُستغلّ لأي ظرف أو فائدة ممكنة بطريقة غير أخلاقيّة عادةً ، مَنْ يطلب مصلحتَه الخاصة.»
ويغلب لفظ «الانتهازية» معرفا بالألف واللام في الاستعمال الشائع الذي يراد به التعبير عن معنى نزعة مرضية تصاب بها فئة من الناس في أي مجتمع من المجتمعات، وتكون ديدنَهم في الحياة، ومركبا لبلوغ مآربهم الخسيسة.
ويعظم مصاب المجتمع بقدر اتساع نطاق الفئة أو الفئات الموصومة بتلك النزعة، أي تجاوز كونها رقعة محدودة في خريطته، تؤكد قاعدة الاصطباغ بالمصداقية الأخلاقية التي تحتكم إلى المبادئ والقيم الخلقية العليا المتمثلة في العدل والإنصاف والموضوعية والتجرد في إصدار الأحكام.
وقد يهون الأمر إلى حد ما، إذا ما ظل السلوك الانتهازي رهينا بمشهد سياسي عابر قد لا تخفى حقائقه ومظاهر الزيف فيه على جم غفير من الناس بحكم الحدس الاجتماعي الناجم عن المعايشة وطول المعاناة التي تكشف عورات الانتهازيين ودسائسهم.
أما إذا تجاوز السلوك الانتهازي قشرة السياسة العابرة والمصالح الضيقة والآنية، ليتطاول على حمى المفاهيم والحقائق العلمية، في أي مجال من مجالاتها، ويسعى إلى النيل منها أو التشويش عليها أو إصابتها بنوع من الزيف والتشويه، فتلك كارثة تصيب بشظاياها صميم الوجود الاجتماعي المتمثل في الجهاز المصطلحي الضابط لمفردات ذلك الوجود في جميع مستوياته.
وأما إذا طالت يد الانتهازيين المفاهيم والحقائق المتعلقة بمجال العقيدة والدين باعتباره جوهر الوجود الإنساني ودليله ومنهاجه في ضبط السلوك وتدبير شؤون الحياة، فتلك هي قاصمة الظهر وداهية الدواهي التي تصيب سفينة المجتمع باضطراب شديد، لأن بقاء تلك المفاهيم والحقائق على أصلها في عقول الناس ووجدانهم هو صمام الأمان ، فإذا زال هذا الصمام وأصيب بالتلف، انفتحت السفينة على المجهول.
مناسبة هذا الكلام ما تضمنته مقالة نشرت بجريدة هسبرس الإلكترونية بتاريخ 7 نونبر 2014 تحت عنوان:» المغاربة والعلمانية: قراءة في نتائج دراسة ميدانية».
يكاد صاحب المقال أن يصدر حكما مفاده أن المغاربة في قطاع عريض منهم علمانيون بالفطرة، ودليله في ذلك ما أسفرت عنه « الدراسة التي شملت 14 بلدا من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وتم خلالها استجواب أكثر من 26618 شخصا في مختلف هذه الدول، بمن فيهم المغاربة الذين أكد 58 ٪ منهم أنهم يعارضون فكرة فصل الدين عن الدولة، بينما عبر 79 ٪ منهم في نفس الوقت عن رفضهم لاستعمال الدين في السياسة، كما عبر 69 ٪ منهم عن رفضهم لمنطق التكفير والتهديد الذي يعتمد مرجعية دينية، وأكد 52 ٪ منهم أنه «لا فرق لديه بين شخص متدين أو غير متدين». وهو ما بدا للبعض تناقضا غريبا، بينما يعبر في الواقع عن عدم فهم الناس لمعنى العلمانية، بسبب التشويش المحيط بهذا المفهوم، كما يبرز تهافت موقف من يعتبر المجتمع كله «جماعة» منسجمة ذات توجهات مطابقة لأتباع الإسلام السياسي.»
إن القارئ لهذا المقال، أو لهذه القراءة، لا يجد كبير عناء في الكشف عن « المنطق» الانتهازي السافر الذي يسري فيها سريان السم في الدسم، ولا يسعه إلا أن يشعر بمزيج من الاستخفاف والاستغراب إزاء هذا اللون من ألوان القراءة أو التحليل الذي لا يستحيي أصحابه أو لا يجدون أدنى حرج في الاستخفاف بشعب بأكمله من خلال سعي مكشوف لتزييف شخصيته وإظهارها على غير ما هي عليه.
ويظهر تهافت هذه الدراسة وانتهازيتها فيما يلي:
أولا : إصدار صاحبها لحكم مفتعل وغير واقعي، ثم نسبته لفئة وهمية، ليتأتى له بعد ذلك أن يؤسس عليه حكما آخر يمثل غرضه الأساس من قراءته، وإلا فكم يمثل من يقيمون تعارضا بين من يعارضون فكرة فصل الدين عن الدولة، ومن يرفضون استعمال الدين في السياسة، إذ إن الحقيقة التي يحل كشفها ما اعتبره الكاتب عقدة أو مفارقة، ليست كامنة البتة في اعتبار المغاربة علمانيين بناء على كون نسبة هامة منهم يرفضون استعمال الدين في السياسة، وتأويل رفض نسبة هامة أيضا لفكرة فصل الدين عن الدولة بكونه تعبيرا عن فهم مغلوط للعلمانية التي هي بريئة في عرف الكاتب مما ينسب إليها، وإنما الحقيقة التي تمثل حلا للعقدة الموهومة هي النظر إلى المغاربة باعتبارهم شعبا مسلما يمثل التدين صبغته الأصيلة، ولن يحجب هذه الصبغة أبدا ما تراكم عليها من غبار بفعل عبث العابثين وكيد الشانئين، وبأن الدين الذي يرفض الشعب استعماله في السياسة إنما يقتضي الفهم السليم حمله على الفهم المغشوش والانتهازي للدين، لا الدين في صفائه ونصوعه باعتباره تحريرا للإنسان.
ثانيا : إن توظيف الكاتب لنسبة 69 ٪ الذين عبروا عن «رفضهم لمنطق التكفير والتهديد الذي يعتمد مرجعية دينية»، في سياق سعيه للبرهنة على علمانية المغاربة يعتبر إمعانا في الانتهازية والتجني على الإسلام، لأنه يحمل اتهاما مبطنا له بحمله لنزعات الظلم والعدوان، في مقابل تبرئته للعلمانية من كل ذلك.
ثالثا : إن استناد الكاتب إلى نسبة 52 ٪ الذين صرحوا بأن لا فرق لديهم بين شخص متدين وآخر غير متدين، لتقوية أطروحته الذاهبة إلى حشر المغاربة في خندق الشعوب العلمانية، ليعتبر وجها من وجوه المكر الذي يضم إلى نقص العلمية والموضوعية الذي يعتري كثيرا من الدراسات، آفة التحيز والهوى في قراءة نتائجها، والذي يتمثل أحد مظاهره في بث إيحاء ساقط مفاده أن المتدين وغير المتدين سيان، وأن لا غضاضة في أن يكثر في سفينة المجتمع من لا يعرفون ربهم ولا يرجون له وقارا، ولا يعرفون حلالا ولا حراما، وشتان بين هؤلاء، وبين من يؤمن بيوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن الانتهازيين يمارسون خرقا سافرا في سفينة المجتمع، وإن من ضرورات حمايتها الدفع بالتي هي أحسن كلما انفتحت أفواههم عما يشبه فحيح الأفاعي والثعابين، وأفرزت سموما ناقعة تلوث مجرى الحياة. يقول الله جل جلاله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ويقول تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
د. عبد المجيد بنمسعود