…حـتــى يـغـيـروا مـا بـأنـفـسـهـم


الانحراف في العمل الدعوي:
هذا وكم ابتلي العمل الدعوي، ومازال يبتلى بأناس من المحسوبين عليه، كثيري الحركة، ضعيفي الزاد الإيماني والتربوي،أو الزاد المعرفي والعلمي في فقه الدين والدعوة والواقع، يتصرفون في حركاتهم للدين والدعوة وعلاقاتهم مع إخوانهم ومع من يخالطونهم من الناس وفي أوساطهم الاجتماعية بما يوافق مزاجهم وأهواءهم، أو مزاج وأهواء قدواتهم السيئة من الزعماء والشيوخ، لا بما يوافق طبيعة الرسالة التي يحملونها، وتقتضيه الأحكام الشرعية ومقاصد الشريعة والحكمة في الدعوة والقيم الأخلاقية التي يدعونها، ويدعون الناس إليها. وهي ظاهرة عامة، ولا أقصد بها شخصا ولا تنظيما بعينه.
فتجد شريحة من هؤلاء همهم في العمل الدعوي الطعن والتجريح في العلماء والدعاة، والنيل من الأفراد والجماعات والتنظيمات، والتجرؤ على الحكم بالجهل والفسق وأحيانا كثيرة بالكفر على كل من خالفهم ولم يكن معهم وعلى شاكلتهم قلبا وقالبا. يقدسون بوعي أو بغير وعي آراء شيوخهم وزعمائهم، ويثقون فيها، ويطمئنون إليها، أكثر من تقديسهم وثقتهم واطمئنانهم لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ، وما يستلزمه الفهم الصحيح لهما. ينكرون على الناس اللجوء إلى أضرحة الأموات، وهم يقيمون أضرحة للأحياء. وقد يستند البعض منهم إلى فهمه الخاص للنصوص أو لي أعناقها لتتناسب مع ما يرتضونه من مواقف وسلوكات. ويتعاملون مع السنة النبوية بانتقائية مثيرة، فيقبلون منها ما يريدون ويردون ما يريدون، ويصححون ويرجحون ما يريدون، ويضعفون أو يغضون الطرف عما لا يروقهم. البدعة في الغالب عندهم ما «بدعوه»هم، والسنة ما «سنوه» هم، وفق معاييرهم الخاصة، لا وفق ما عليه جمهور الفقهاء، أو ما قرره الحكماء الأمناء من العلماء.
وقد تجد البعض منهم بفهومهم السقيمة والسطحية للدين والتدين، وباتسامهم بالفظاظة وغلظة القلب، وعدم التحلي بالحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة، وغياب الرفق والرحمة والمحبة في التعامل، يفشلون في تحقيق أي تواصل بناء أو اندماج إيجابي لصالح الدعوة، حتى مع أهاليهم وذويهم وأوساطهم الاجتماعية. بل تراهم باسم الدين يقطعون أرحامهم، ويسيئون علاقاتهم مع القريب والبعيد من الناس. ينظرون إلى غيرهم بغرور واستعلاء، ظنا منهم أنهم وحدهم على الحق المطلق، وكل الآخرين على الباطل المطلق. يهتمون في كل الأمور بالقشور والمظهر، ويغفلون عن الجوهر والمخبر. يقيمون الخصومات الكلامية حول المتغيرات والجزئيات على حساب الثوابت والكليات، والجدالات العقيمة حول الأمور الخلافية على حساب الأمور الاتفاقية. فهؤلاء مع الأسف، ومن لف لفهم ونهج نهجهم، بتصرفاتهم هاته وحركتهم الدؤوبة والمستفزة، يسيئون إلى الدعوة أكثر مما يحسنون، وينفرون الناس من الدين أكثر مما يرغبون فيه. ولا يستجيب لدعوتهم إلا من كان على شاكلتهم، حاد الطبع، يميل إلى التشدد والعنف، والرغبة في المخالفة في كل شيء، وتغليب العاطفة والمزاج على العقل والفكر.
والأسوء من هذا كله وجود فريق، منهم شيوخ سوء، وأتباع سوء، أفراداً وجماعات، لا يجدون غضاضة في أن يوظفوا من طرف دهاة السياسة، من الكفار والظالمين وأذنابهم، القريبين والبعيدين، ضد الدعاة الآخرين وحملة المشروع الإسلامي. ولا يتورعون عن وضع أيديهم في أيديهم، ويرتضون بقصد أو بغير قصد، عن علم أو جهل، أن يكونوا أداة خسيسة، وخنجرا مسموما في قبضتهم لضرب العاملين للدين والدعوة من إخوانهم وبني جلدتهم، وطعنهم من الخلف، فأي خسة هذه، وأي حقارة اختارها هؤلاء لأنفسهم، أن يقفوا في صف الكفر والكافرين، والظلم والظالمين، والطغيان والطواغيت، ضد إخوانهم ممن يحملون بحق هم الأمة وهم عزتها وكرامتها، ويحاولون تبليغ رسالة الإسلام بحكمة وأمانة، وخدمة دين الله ودعوته بإخلاص، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وهم يجتهدون في ذلك على كل حال، فلهم أجر الاجتهاد حتى وإن أخطأوا، ولا عصمة إلا للأنبياء والرسل!. أيبتغي هؤلاء عند أشد الناس عداوة للمؤمنين وللدين الإسلامي والهوية الإسلامية العزة والرفعة والمكانة ولعاعة من الدنيا مما نهب من أموال الشعوب وأخذ بالباطل… !؟ فإن العزة والعلو والمكانة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين. أين أنتم، وما موقعكم، من التحذير الشديد والوعيد في قوله تعالى: لا يتخذ المومنون الكافرين أولياء من دون المومنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير ، وفي قوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون . وعيد شديد من الله لمجرد الركون إلى الظالمين، فكيف بالتواطؤ معهم والتعاون، ضد من ؟؟! ضد الأقرباء والإخوة. فأي ظلم «مكعب» هذا، وأي جناية في حق القرابة والأخوة أعظم من هاته، بل أي خيانة، والعياذ بالله، لله ولرسوله وللمؤمنين ولأمانة الدين يرتكب هؤلاء ومن لف لفهم !؟
سأل أحد حراس السجن أحد الأئمة الكبار الذين تعرضوا لمحنة السجن قديما، ظلما وعدوانا: أتراني يا إمام من أعوان الظالمين؟ أجابه الإمام : لا، بل أنت من الظالمين.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
فهل مثل هذه التصرفات والمواقف المخزية، مواقف الخذلان والخزي والعار، وتحت أي مبرر كان، تمت بصلة إلى إخلاص الدين لله في شيء، أو حتى الإخلاص لقيم الرجولة والشهامة، بله سير السلف الصالح الذين لا نفتأ ندعي أننا نقتفي أثرهم زورا وبهتانا. ما حظ هذا من «التوحيد» يا «دعاة التوحيد»؟ وما حظه من عقيدة الولاء والبراء و سيرة رجال «التوحيد» الحقيقيين وشيوخه، ونهجهم ومبادئهم ومواقفهم البطولية في مواجهة الكفر والظلم والطغيان والشرك بكل أشكاله وألوانه، أمثال الأئمة أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، رحمهم الله ورضي عنهم…؟ أرجو الله أن يرد بنا وبكم إليه ردا جميلا، ويلهمنا الاخلاص والسداد والرشد في القول والعمل. ونعوذ به من الحور بعد الكور.
إن كل هاته الأصناف، وغيرها كثير، هم في الحقيقة ركب علماء السوء الذين يعطون صورة مشوهة عن الدين وعن الدعاة إلى الله، ويكرهون الناس بأخلاقهم الفاسدة في التزام تعاليم الدين القويم، خصوصا العوام منهم والجاهلين بقيمه ومبادئه الحقة. وقد صورهم ابن القيم رحمه الله أبلغ تصوير، في مشهد عجيب وغريب، حيث قال : «علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم. ويدعونهم إلى النار بأفعالهم. فكلما قالت أقوالهم للناس:هلموا،قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقا، كانوا أول المستجيبين له. فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق».
ومثل هؤلاء العلماء والدعاة عادة لو كانوا مخلصين لله في علمهم وعملهم، لكان لهم شأن آخر. وإنما يسخرهم الله لحمل الدين والعلم على علاتهم، لإقامة الحجة على الناس. قال الحسن البصري رحمه الله : «يبعث الله لهذا العلم أقواما يطلبونه، ولا يطلبونه حسبة، وليس لهم فيه نية، يبعثهم الله في طلبه كي لا يضيع العلم حتى لا يبقى عليه حجة» .
إنها صور ومظاهر لتدين مغشوش ومنحرف، موجودة بنسب مختلفة في مجتمعاتنا الإسلامية، وهي آفات قد انتشرت، مع الأسف، في صفوف المنشغلين بالدعوة إلى الله، في مجالاتها المختلفة، وتبرز مكبرة بالإعلام المناوئ والمتربص في المجال السياسي والنقابي خصوصا. مع أن الدعوة إلى الله تعالى، وظيفة الأنبياء والعلماء الربانيين والصالحين المصلحين من أتباعهم، وهي أطهر وأقدس وأشرف من أن تتلوث بمثل هؤلاء المرضى والمعلولين، من عبدة الأهواء والشهوات وحظوظ الدنيا، والجاهلين بمقاصد الشرع وفقه الدين والدعوة وفقه تنزيلهما على الواقع وأولويات ذلك. إنها آفات تزيد وتنقص حدتها من فرد إلى فرد، وتختلف طبيعتها من شخص إلى آخر. ووجودها يختلف أيضا من بيئة إلى أخرى، ومن إطار إلى آخر، حسب توافر ظروفها المشجعة عليها؛ وحسب قوة وضعف الجهود المبذولة من الأفراد والجماعات في محاربتها، والإحساس والتحسيس بضرورة التخلص منها ووقاية الجسم الفردي والجماعي من آثارها وتأثيرها السلبي عليه. وهنا تبرز أهمية العمل التربوي ودوره الفعال في ذلك.
الخلاص في الإخلاص
إنه لا خلاص لنا اليوم في الدنيا من هذا الواقع المزري، والفساد المستشري الذي يدب فينا دبيب النملة ويطالنا أفرادا وجماعات ومجتمعات،ولا خلاص لنا غدا بين يدي الله في الآخرة، إلا بالوقوف وقفة صادقة مع الذات الفردية والجماعية لمراجعة ومحاسبة النفس تصحيحا للمسار، واستدراكا لما يمكن استدراكه قبل فوات الأوان، والأوبة إلى الله بإخلاصنا له في كل حركة وسكنة، إذ لا نجاح ولا فلاح في هذه الدار وتلك الدار إلا به. ودون ذلك البلاء المحيط والخسران المبين. لا بد من توبة نصوح، وعقد مصالحة شاملة معه سبحانه أولا ومع الذات ثانيا، تعم كل مجالات الحياة. وليكن الله جل جلاله وحده قصدنا، وصراطه المستقيم منهجنا، ومحمد رسول الله قدوتنا وقائدنا، والقرآن الكريم دستورنا في الحياة، لا نرضى بغيره بديلا. هذه حقيقة ينبغي أن نكون على يقين بها، ونصرح بها للعالم ولا نخشى في الله لومة لائم. وسوى ذلك مغالطات للنفس وللغير.
أرجو أن يكون في هذه الكلمات إشارة إلى جوهر بعض الآفات الحقيقية التي تسري في كيان الأمة، وإسهام ولو بوضع الأصبع على مكمن الداء الذي تعاني منه مجتمعاتنا، وانتقل فيروسه، إلى جهاز المناعة فيها، وهم حملة مشروع التغيير، والحركات الإصلاحية. شعرنا بذلك أم لم نشعر، وأقررنا بذلك أم لم نقر. وغريب حقا أن تنتشر هذه الآفات المعدية في هذه الأمة، أمة الشهادة على الناس، الأمة الهادية المهدية بالإيمان والعقيدة الصحيحة، ولكن الأغرب من هذا، أن تصيب عدواه من يعتبر من الأطباء، أو يرشح نفسه لذلك. وهذا واقع لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه بأي حال من الأحوال، وبإي مبرر كان. فقوتنا، وعزتنا، وتفوقنا، ونصرنا، ونجاحنا في تأثيرنا على الآخرين في إطار القيام بمسؤولية البلاغ المبين، كل ذلك يكمن في إخلاصنا لربنا وديننا وقيمنا ومبادئنا القائمة على الصبر والمجاهدة والتضحية والثبات على الحق والعدل والرحمة والمحبة ومراعاة حقوق الأخوة العقدية والآدمية…. فأي شيء يمكن أن نقدمه للإنسانية، هي في أمس الحاجة إليه اليوم، إذا أضعنا ذلك كله !؟ وكيف يمكن أن نشهد على غيرنا، -ونحن أمة الشهادة على الناس- إذا كنا الأسوأ منهم في كل مجال !؟ فعسانا أن نتلمس جميعا، الدواء الحقيقي، ونصبر على تناوله، مهما كلفنا الأمر ذلك، ومهما كانت مرارته، علاجا لما قد حصل فعلا، وتحصينا مما قد يقع. فبعدها إن شاء الله تأتي حلاوة العافية والصحة والسلامة وتحصل المناعة. أليس هذا خير ألف ألف مرة من أن نظل سائرين إلى الخلف، أو نبرح مكاننا نلعن الظلام ولا يزداد إلا حلكة، ونعيب الزمان ونحن السبب !؟، فنكون كما يقال:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وحسبي في هذا كله أن أكون ممن دق ناقوس الخطر، ينذر بما ينبغي منه الحذر. و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . هذه سنته سبحانه في خلقه ولا تحابي أحدا . وإنا لله وإليه راجعون.
والله من وراء القصد، وهو يهدي الى سواء السبيل.

ذ. محمد محتريم

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>