ليس التاريخ الهجري مجرد حساب عادي للزمن فقط، ولكنه أيضا يحمل دلالة حضارية يرتبط بهوية أمتنا وحضارتنا وقبل ذلك بديننا. جاء في تفسير الطبري عن قتادة: قوله: يسألونك عن الاهلة، قل هي مواقيت للناس والحج ، قال قتادة: سألوا نبي الله عن ذلك: لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: هي مواقيت للناس ، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجهم، ولعدة نسائهم ومحل دينهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه”.
واضح مما رواه الطبري رحمه الله تعالى أنه من الناحية التعبدية يرتبط التقويم الهجري بعدد من الشعائر في مقدمتها اثنتان وهما: الصوم والحج، بالإضافة إلى أشياء أخرى كما ورد في الرواية. ولا شك أن الصوم والحج من الشعائر الكبرى، فبهما تُكفّر الذنوب وفيهما تُغفر الخطايا، كما هو واضح في الحديثين المشهورين: «…إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَرَضَ لِي، فَقَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَغْفَرْ لَهُ، قُلْتُ: آمِينَ…»، «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». ولارتباط العبادتين بالشهر الهجري القمري دلالات لعل في مقدمتها أنهما تدوران على مدار السنة الشَّمسية فتكونان في الصيف كما في الشتاء وفي الرَّبيع كما في الخريف لتستكمل الدورة بعد ثلاث وثلاثين سنة قمرية أو اثنتين وثلاثين شمسية.
ومن ثم فإن التَّقويم القمَري تقويمٌ ربَّاني سماوي كَوْني توقيفيٌّ، قديم قِدَم البشريَّة، ليس من ابتداع أحَد الفلَكيِّين، وليس للفلكيِّين سلطانٌ عليه أو على أسماء شهوره أو عدَدِها أو تسلسُلِها أو أطوالها، وإنَّما يتمُّ كلُّ ذلك في حركةٍ كونيَّة ربَّانية، كما هو واضح في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْارْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (التوبة: 36)، فهو تقويمٌ كامل، لا يَحتاج إلى تعديلٍ أو تصحيح، لأنه من تقدير العزيز العليم.
وأما المواقيت ومعرفة عدد السنين والحساب فأمر معلوم، وهو ميسور أيضا حتى بالنسبة للذي لا يعرف الحساب، إذ يكفي أن يرفع بصره إلى السماء لينظر موقع الهلال فيتذكر هل هو في أول الشهر أو وسطه أو آخره، ولقد كان آباؤنا رحمهم الله تعالى يعلموننا تقدير معظم أيام الشهر القمري بمجرد تحديد موقع القمر في السماء. وأما الادعاء بصعوبة التقويم القمري وعسر ضبطه فادعاء باطل، فنحن أمة التدقيق والحساب، ولقد كان أسلافنا رحمهم الله يعرفون مواقيت الصلاة بالساعة والدقيقة دون أن تكون في أيديهم أو جدران منازلهم ساعات، مع أن هذه المواقيت تزيد وتنقص حسب الأيام.
ثم بالإضافة إلى هذا كله، وقبله وبعده، فإن التاريخ الهجري يذكِّر بأعظم حدث في تاريخنا وهو حدث الهجرة الذي كان مقدمة لتأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة. بالإضافة إلى الأحداث الكبرى التي عرفها تاريخ الإسلام والتي ارتبطت بالتاريخ الهجري بشكل عضوي.
إذن فالتقويم الهجري يرتبط بهوية أمتنا وذاكرة حضارتنا، وإن طمسه هو طمس لهذه الهوية وهذه الذاكرة، ويبدو أن محاولة الطمس بدأت منذ وقت مبكر، حيث يُتناقل في بعض الكتابات أنه في القرن الثاني عشر الهجري أرادت الدولة العثمانية تحديث جيشها فطلبت مساعدة الدولِ الأوربية العظمى فوافقت على مساعدتها بشروطٍ، منها: إلغاء التقويم الهجري في الدولة العثمانية؛ فأذعنت لضغوط الدول الأوروبية.
وفي القرن الثالث عشر الهجريِ أراد خديوي مصر أن يقترض من بعض الدول الأوربية لتغطية مصاريف قناة السويس، فوافقوا مقابل ستة شروطٍ، منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتم إلغاؤه سنة 1292هـ، واعتُمد بدله التقويم الميلادي.
د. عبد الرحيم الرحموني