نظرة مقاصدية – في مباحث الأسرة (2/1) «مؤسسة الزواج أنموذجا» 3


إن المقاصد هي الغايات والأهداف والبواعث والمآلات والحكم الكامنة وراء وضع الشريعة ابتداء، وتشريع الأحكام التفصيلية انتهاء. ليست على درجة واحدة. فهناك مقاصد عامة وكلية تتعلق بمجموع الشريعة الإسلامية وبمختلف جوانبها. وقد أشار إليها الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى حين نبه على أن المقصد من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا
وهناك مقاصد جزئية تتعلق بكل حكم من أحكام الشريعة. ومنها –في باب المناكحات- حكم النظر إلى المخطوبة كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي فقال : إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبي : هل نظرت إليها ؟ فإن في عيون الأنصار شيئا وقال : قد نظرت إليها « الحديث
وذلك حتى يحصل الميل ، والرغبة ، والقبول، والسكن…
وهناك مقاصد واقعة بينهما –بين العامة والجزئية- تتعلق في الغالب الأعم بالمجالات التشريعية. ومنها مقاصد قسم المناكحات – قسم الأسرة أو الأحوال الشخصية- التي هي صلب هذه الكلمة أو بالأحرى الأرضية المعروضة للنقاش.
وهذه المقاصد التي تروم الشريعة تحقيقها في حياة الناس ليست أيضا على درجة واحدة من الأهمية. بل منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني. وهذا أمر مجمع عليه ، لا أعلم فيه خلافا.
وقد نبه العلماء – قديما وحديثا – على أن من لم يعرف مقاصد القرآن والسنة «لم يحل له أن يتكلم فيهما. إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما».
كما اشترطوا في الاجتهاد في الوقائع المستجدة فقه المقاصد، والتمكن من بناء الاستنباط عليها .
قال الشاطبي رحمه الله «إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
- أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها .
- والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها».
ولما كانت المقاصد الشرعية بهذه الأهمية كان لا بد من جعلها إطارا مرجعيا في معرفة الأحكام الشرعية، سواء تعلق الأمر بالمسائل الفقهية المعلومة المبثوثة في بطون الكتب الفقهية، أم تعلق الأمر بالمسائل المستجدة في واقع الأمة، وذلك لتمييز ما هو شرعي موافق لمراد الشرع ومقصوده مما هو على النقيض من ذلك ليدرأ، ويدفع، ويزال بقدر الإمكان.
وليس معنى ذلك قصر النظر في هذه القضايا على هذه المقاصد فحسب، وجعلها طريقا إلى معرفة الأحكام كما يحلو للبعض دون سواها، وإنما المقصود إعمالها مع الأدلة الشرعية، والاستعانة بها باعتبارها قواعد كلية مستخلصة ومستنبطة من عموم هذه الأدلة.
وهذا ما أشار إليه الإمام أبو حامد الغزالي- رحمه الله- حيث عاب على من جعلها أصلا خامسا- حين قال : «إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع. ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع»
أما النظرة المقاصدية فأعني بها – فيما أعنيه- ذلك النظر المبني على ما ذكر سابقا، والمنشئ لنمط من التفكير، والمؤسس لمنهج في الفهم والاستيعاب، والتحليل والتعليل، والبناء والتقويم.
فهو تصور منبثق –في الغالب – من مراعاة مقاصد الشرع الحنيف.
وقد أعجبني تعريف الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني –حفظه الله – حين عرف النظر المقاصدي بكونه «هو الفكر المتشبع بمعاني مقاصد الشريعة وأسسها ومضامينها من حيث الإطلاع والفهم والاستيعاب، والمستيقن مقصدية الشريعة في كلياتها وجزئياتها. وأن لكل حكم حكمة . ولكل تكليف مقصده أو مقاصده.
أو هو الفكر المؤسس على استحضارها واعتبارها في كل ما يقدر ويقرر ويفسر.
أو هو النظر المتبصر بالمقاصد، المعتمد على قواعدها، المستثمر لفوائدها»
أما مصطلح الأسرة في اللغة فهو الدرع الحصينة .يقال. أسره يأسره أسرا وإسارة شده بالإسار، والإسار ما شد به..
وأسرة الرجل عشيرته ورهطه الأدنون، لأنه يتقوى بهم.
والأسرة عشيرة الرجل ، وأهل بيته.
وهي استعمالات لغوية توحي بدلالات كثيرة منها: الترابط، والتآزر، والتعاون، والتكامل، والتراحم، والتقوية، وغير ذلك من المعاني المأخوذة من معاجم اللغة أو المستنبطة منها.
أما في الاستعمال الاصطلاحي فيتعدد مفهومه ويتنوع بتعدد الحضارات والثقافات وتنوعها . فقد يقصد به النمط السائد لمفهوم الأسرة وهو الجماعة الصغيرة التي ترتبط برباط الدم أو الزواج … وتشترك في سكن واحد، وترتكز في العادة على زواج شخصين –ذكر وأنثى – يتوج في الغالب بالبنين.
أو ما هو في حكم النمط المذكور من مثل المرأة المطلقة وأطفالها، والزوج المطلق وأطفاله . والأرملة وأطفالها.. والزوجين واليتيم أو اليتامى المتكفل بهم … مما يدخل تحت المفهوم الشرعي للأسرة . وهذا هو المعتمد عندي.
وقد يقصد به أنماط أخرى مستقبحة مستهجنة مما تعافه الفطر السليمة، ويأباه الشرع الحنيف من مثل الأسرة المكونة من المثليين، والأخدان وغيرها مما أفرزته هذه الحضارات المارقة من الدين.
ولقد تحدث كثير من الفقهاء عن مقاصد تأسيس الأسرة والمحافظة عليها، وحصرها بعضهم في حفظ النسل، وتحقيق السكن والمودة والرحمة، وحفظ الأنساب ، والإحصان، وحفظ التدين…
وأحسب أن من أحسن ما قرأته في الباب ما كتبه الشيخان: الشيخ التونسي العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» .
والشيخ الجزائري الدكتور الطيب برغوث في كتابه»بناء الأسرة المسلمة طريق النهضة الحضارية».
وهما كتابان مؤسسان على ما قدمته الأمة من جهود في مجال الأسرة خلال قرون من الزمن.
وقد عولت على كثير مما جاء فيهما . وفي غيرها من الكتب التي نبهت على أصول وجب مراعاتها في تكوين مؤسسة الزواج، والحفاظ عليها .

إن «الزوجية» سنة كونية قال الله عز وجل: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (الذاريات 49).
وقال عز من قائل ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها. وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (الروم 21).
وقال جلا وعلا: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة . (النحل72).
وإن الوحدة البشرية مكونة من زوجين. والزوجان في لغة العرب شيئان يتكاملان ليكونا شيئا واحدا لا ينفصل أحدهما عن الآخر و لا يستقر لأحدهما قرار دون الآخر.
وإن النوع البشري متوقف تكاثره وتناسله واستمراره- للقيام بأعباء الاستخلاف والعمارة والعبادة بمفهومها العام- على مؤسسة الزواج.
وإن أي خلل يحدث في هذه المؤسسة وفي هذا النظام، وإن أي تقصير يلحق هذه الزوجية سيؤدي لا محالة إلى إلحاق ضرر عظيم بالكون وبالنوع الإنساني عموما، وإلى إلحاق فساد عظيم بنظام الأسرة على وجه الخصوص . لأنه خروج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم
إن نهضة الأمة المسلمة متوقفة على نهضتها في مختلف الميادين والمؤسسات الرئيسة التي تعتبر مؤسسة الأسرة على رأسها. بدءا بوعيها بدورها الرسالي وما تحققه في حياتها من أمن وأمان، وسكينة واستقرار، وانتهاء بما يمد المجتمع به من ذرية صالحة مصلحة، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، مؤمنة بالله عز وجل.
ولقد وجهت إلى نظام الأسرة سهام كثيرة بغية استبدال أنماط اجتماعية بها. وبغية تكسير حواجز الهيبة والحشمة والوقار والحياء القائمة عليها. وعقدت مؤتمرات وندوات ولقاءات سعت إلى هدم هذا الحصن الحصين تحت عناوين براقة من مثل «القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة» أو تقييد الحرية الشخصية « … حتى يتسع المجال لغيرها من الأنماط الأسرية التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تهدف أساسا إلى تغيير خلق الله وسنته وفطرته التي فطر الناس عليها.
ولما كانت الأسرة نواة المجتمع وأسه. وكانت هذه النواة متوقفة على الزواج. فقد أولاها الإسلام عناية كبيرة. وجعلها آية من آيات الله عز وجل قائمة على أسس من السكن والمودة والرحمة .
قال تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية (الروم 21).
وهكذا فإن «إدراك موقع الزواج من نظام الوجود، وحركة الاستخلاف في الأرض، ينبغي أن يشكل مقدمة الوعي الأولى التي يجب أن نركزها في وعي الأجيال عامة، وفي وعي كل مقبل على الزواج خاصة، حتى يتسع أفقه ليستوعب مقاصد الزواج الأساسية، فيدرج زواجه في ذلك السياق الكلي الذي يعطي لهذا الزواج أبعاده الاجتماعية والإنسانية والحضارية الكبرى، ولا يختزله في عاطفة عارضة أو شهوة عابرة أو علاقة ثنائية وعائلية واجتماعية محدودة، لأن الزواج في حقيقته هو بوابة الانفتاح الحقيقي على الحياة عبر العلائق والوشائج الحميمة التي تترتب عليه وتنبثق منه في اتجاه الزوجية والبنوة والأبوة والأخوة والعلائق القرابية التي تتسع دوائرها حتى تنتهي إلى الأبوة والأخوة الإنسانية العامة.
إن العلاقة التي تجمع الأفراد المكونين للأسرة من أقدس العلاقات تبدأ بذرتها بفردين عن طريق الزواج، ثم سرعان ما تتكاثر وتتناسل بسبب الإنجاب وتمتد لتشمل الأقارب والأصهار من الطرفين. وقد وصفها بعض المفكرين بالشجرة التي تمتد أوراقها ليستظل بها الجميع. وكلما تشابكت أعضاؤها وازدادت أوراقها كلما كانت الحضن الدافئ، والحصن الأمين لكل من يأوي إليها
لقد أشار الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقاصد أحكام الأسرة – أو أحكام العائلة كما يصطلح عليها- إلى أن نظام الأسرة في حضارة الأمة هو أساس حضارتها ، وانتظام جماعتها ، ولذلك كان الاعتناء بضبطه كبيرا.
وهذا الضبط كان مقصدا من مقاصد كل الشرائع السماوية ومقصدا ألهمته البشرية أيضا.
وهكذا اعتنت الشرائع بضبط هذا النظام المكون للعائلة باعتباره اقتران زوجين بميثاق الزوجية، وما يتفرع عنه من نسل وقرابة –فروعا وأصولا- وما يستتبع ذلك من نظام مصاهرة.
فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة. ومنه أيضا تتكون الأخوة وما دونها من صور العصبة. ومن امتزاج رابطة النكاح ورابطة النسب تحدث رابطة المصاهرة.
ولقد جاءت الشريعة الإسلامية مهيمنة على كل الشرائع . فكانت أحكامها في مجال الأسرة من أعدل الأحكام وأوثقها وأجلها.
يتبع

د. زكرياء المرابط


اترك رداً على خالد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

3 thoughts on “نظرة مقاصدية – في مباحث الأسرة (2/1) «مؤسسة الزواج أنموذجا»