مـواقــف وأحـــوال – ضياع ملك أمير المومنين


في بضع وعشرين سنة، تبدلت الأرض غير الأرض، وتغير وجه الدنيا، وأصبحت قبائل العرب المتناحرة دولة قائمة، وأمة حاكمة، وفي أقل من عقدين –بعد ذلك- تمددت الدولة الإسلامية في المشرق والمغرب، وسقطت امبراطوريات كبيرة، وحضارات عريقة، مثل الفرس والروم وغيرهما..
وفي صدر خلافة بني أمية ازداد الإسلام انتشارا والدولة تمددا، ثم جاء على بعض حكامهم حين من الدهر قصدوا الشهوات، وآثروا اللذات، وانتهكوا الحرمات، واقتحموا المحرمات، واطمأنوا إلى الدنيا وزينتها، وأمنوا مكر الله تعالى، فنزع الله عنهم الملك، وسلبهم النعمة.
وكان آخر ملوكهم عبيد الله بن مروان هاربا هائما على وجهه، نزل بأرض النوبة فطرده ملكها خوفا من عقاب الله وعذابه، ثم كان سجينا بعد ذلك، وهاهو يحكي لنا بنفسه كيف ذهب حكمه، وضاع ملكه:
قال أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله:
وحدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة، حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكان همهم من عظيم شأن الملك، وجلالة قدره قصد الشهوات وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله عز وجل ومساخطه، جهلا منهم باستدراج الله تعالى، وأمنا من مكره تعالى، فسلبهم الله تعالى الملك والعز، ونقل عنهم النعمة.
فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبيد الله بن مروان، لما دخل أرض النوبة هاربا، في من اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم، فأخبر فركب إلى عبيد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو، لا أحفظه، وأزعجه عن بلده.
فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة، ويسأله عن ذلك.
فأمر المنصور بإحضاره، وسأله عن القصة.
فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي، فافترشته بها، وأقمت ثلاثا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا، فدخل علي رجل طوال، أقنى، حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب.
فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟
فقال: إني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله جل وعز، إذ رفعه الله تعالى.
ثم أقبل علي فقال لي: لم تشربون الخمور، وهي محرمة عليكم في كتابكم؟
فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا.
قال: فلم تطؤون الزرع بدوابكم! والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك جهالنا.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير، وتستعملون الذهب والفضة، وهو محرم عليكم؟
فقلت: زال عنا الملك، وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكره منا.
فأطرق مليا، وجعل يقلب يده، وينكت في الأرض.
ثم قال: «ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب، وأنتم ببلدي، فيصيبني معكم وإنما الضيافة ثلاث، فتزودوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي»، ففعلت ذلك.

د. امحمد العمراوي
——————–
القصة بهذه الألفاظ من: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص: 366 وأوردها ابن خلدون في المقدمة: ص: 259 والفندلاوي ضمن فتواه في بيان حقيقة الدين والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، بتحقيق الدكتور أحمد البوشيخي ص:66

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>