من نواح عدة يبدو العالم العربي وكأنه يسير عكس التاريخ، وأنه لا يزال أسير صراعات القرن الماضي.
(1)
من اليمن إلى ليبيا مرورا بالعراق وسوريا تظل بعض شواهد أزمة العالم العربي. وتقدم مصر والجزائر والسودان ولبنان شواهد أخرى، حتى يبدو وكأننا بإزاء خرائط جديدة على الصعيدين الجغرافي والسياسي. بل إننا نرى في الصورة بعض ملامح الحرب الباردة بين التحالفات والمحاور التي تشكلت في المنطقة. وذلك منطوق يحتاج إلى بعض التفصيل.
إذ إننا لسنا على ثقة من أن جغرافية العالم العربي ستظل كما هي، وأن حدود سايكس بيكو التي رسمت بعد الحرب العالمية الأولى لن تخضع للتغيير. يشهد بذلك ظهور الدولة الإسلامية (داعش) بين سوريا والعراق، وكذلك احتمالات التفتت الواردة في ليبيا واليمن. كما تشهد بذلك الإشارات التي تتجمع في الأفق منذرة بإقامة دولة كردستان التي يتوزع شعبها الكردي على أربع دول (تركيا والعراق وسوريا وإيران). في حين وقع المحظور في السودان بانفصال جنوبه الذي نرجو ألا يكون بداية لانفراط عقد الدولة وتشرذمها، ثم لا ننسى أن فلسطين الوطن يجري محوه من الخريطة حينا بعد حين، كما أن فلسطين القضية تكاد تسقط من الذاكرة العربية.
وإذا كانت معالم التشكل الجغرافي لا تزال في علم الغيب، فإننا قد لا نخطئ كثيرا إذا قلنا إن العالم العربي لم ينجح في اختبار التحول الديمقراطي. وإذا كان ذلك التحول قد حدث في تونس بدرجة أو أخرى، إلا أن ذلك يظل استثناء لا يقاس عليه، ولا يغير من حقيقة السمة الغالبة. وهو ما يسوغ لنا أن نزعم بأن مقولة نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية التي بشر بها فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، جرى تكذيبها في العالم العربي. فلا انتصرت الديمقراطية، ولا وقع الصدام بين الحضارات، لأن الصدام الذي نشهده الآن هو بين أبناء الحضارة الواحدة، كذلك فإن شواهد الديمقراطية تتراجع حينا بعد حين، في الوقت الذي تتنامى فيه حظوظ الكيانات المعاكسة والرافضة لها.
(2)
في القرن الماضي حسم الصراع المسلح بين الإمبراطوريات والقوى الكبرى بعد حربين عالميتين داميتين أبادتا ملايين البشر، وطويت صفحة الصراع الأيديولوجى بين الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا والشيوعية في الاتحاد السوفييتي. وانتصرت الليبرالية وكذلك الرأسمالية بأطيافها المختلفة في نهاية المطاف. وانتهت الحرب الباردة بين القوتين الأعظم : (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة) وقبلها ظهرت الأمم المتحدة مستلهمة مبادئ عصبة الأمم لتكون ركيزة النظام الدولي وجهاز إدارة الخلافات. كما انتهى عصر الاستعمار المباشر. وانصرف العالم لمعالجة مجالات أخرى للتنافس وللصراع حول النفوذ السياسي والتجارة والبيئة ومواجهة الهجرات. وأحدثت ثورة المعلومات نقلة تكنولوجية ومعرفية هائلة. أصبحت مجالا للتنافس الشرس بين الدول الصناعية. وما كاد القرن ينتهي حتى أصبح للصراع شكل مختلف تماما. إذ برز دور ما سمي بالسلاح «السيبيرى» الذي تمارس في ظله الحرب في وقت السلم. ويضرب المثل في ذلك بالصين التي صارت قطبا مرشحا يقابل الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد، آخذة مكان الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي. ويتردد الآن بقوة أن الصين أصبحت تخوض حربا تجارية شاملة ودائمة سلاحها التسلل إلى الحواسيب الأجنبية والسطو على مخزونها، حتى قيل إنها نجحت في استنساخ تصاميم المقاتلات الأمريكية، بالمقابل لم يعد سرا أن وكالة الأمن الوطني الأمريكية أصبحت تتجسس على العالم كله، ولم تستثن في ذلك القادة السياسيين (حتى الحلفاء منهم) ولا الشبكات الصينية. وفى سياق الحرب السيبيرية أو الإلكترونية استطاع الأمريكيون تلويث المولدات النووية الإيرانية بجرثومة عرفت باسم «ستاكسنت»، الأمر الذي أدى إلى انتقال العدوى جزئيا إلى حواسيب غربية. وقد رد الإيرانيون على ذلك بتلويث حواسيب أمريكية على سبيل الانتقام. وهذه القدرة ذاتها باتت تمكن الطرف المتقدم تكنولوجيا من تعطيل شبكات المياه والكهرباء وشل حركة الطرف الآخر.
هذه الحروب الخفية تستمر الآن دون أن تطلق فيها رصاصة أو يسيل فيها دم. وفى حال انتقالها إلى العلن، فطائرات «الدرون» بغير طيار تظهر في الأفق. والحديث متواتر عن الاستعانة في مثل تلك المواجهات بروبوتات طائرة وزاحفة تحقق الأهداف المطلوبة.
هذه خلاصة سريعة ــ قد تكون مبتسرة ــ ترسم بعض ملامح التطور الحاصل في العالم الخارجي، الذي بات مشغولا بالتنافس في مجالات وآفاق أخرى، جعلته يكثف من الاهتمام بتفوقه وتحسين أوضاعه والارتقاء بشعوبه. وذلك أمر مفهوم ومقدر لا ريب، لكن ما لا نستطيع أن نتجاهله في ذلك أنه قلل بمضي الوقت من اهتمامه بعالمنا العربي، ولم يعد يتجه إليه إلا مضطرا (كما حدث في حالة ظهور «داعش» مثلا ودعوة الولايات المتحدة إلى إقامة تحالف دولي لوقف تقدمها) ــ وفى تفسير ذلك العزوف الأمريكي والغربي نستطيع أن نورد عوامل عدة إلى جانب ما سبق ذكره، منها أن الغرب لم يعد يواجه تحديا يخشاه في العالم العربي لا من داخله ولا من قوى خارجية أخرى (كالاتحاد السوفييتي مثلا).
(3)
لقد خرج العالم الغربي من تجربة القرن الماضي مستوعبا دروس خبرته، التي كان من أهمها إقامة مجتمعات ديمقراطية قوية تجاوزت الصراعات الإيديولوجية وانتقلت إلى صراعات النهوض والتقدم. في الوقت ذاته، فإنها أقامت آلية لإدارة خلافاتها، بحيث تتجنب تكرار مأساة الصراعات المسلحة. ومن ثم تراجع دور الجيوش التي طورت أدواتها كما سبق أن ذكرت. وباتت تؤدي مهامها خارج حدود الغرب. وإزاء ذلك التراجع فإن القطاع الخاص داخل على الخط بحيث تأسست شركات ومنظمات أصبحت تؤدي دور الجيوش من خلال صفقات تحرر لأجلها عقود تحدد المهام المطلوبة والمقابل المادي المقدر. وهو ما جرى العمل به في أفغانستان والعراق وبعض الدول الأفريقية. والمتداول أن بعض تلك الشركات الأمنية تمارس نشاطها في بعض الدول العربية، والخليجية منها بوجه أخص.
خلاصات خبرة القرن في بلادنا جاءت مختلفة من نواح عدة، أبرزها ما يلي:
• خرج العالم العربي من حقبة الاستعمار منهكا وضعيفا في بنيته المجتمعية وأنظمته السياسية. وبوسعنا أن نقول : إن أوروبا الغربية دخلت بالديمقراطية في عصر الشعوب فإن العالم العربي شهد تطورا مغايرا. إذ فشل فيه التطبيق الديمقراطي، باستثناء ومضات سريعة.. ودخل بعد الاستقلال في عصر الأنظمة والسلطات المهيمنة.
• بسبب الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية التي ظهرت فيه فإن خروج الاستعمار من المنطقة لم يخرجها من دائرة النفوذ الغربي، ساعد على ذلك الضعف الذي عانت منه الدول العربية، الأمر الذي نقلها من طور الاحتلال إلى طور القابلية للاستتباع. إلا أن دول الهيمنة الغربية فقدت اهتمامها بالمنطقة بمضي الوقت، وأصبح حضورها فيها مقصورا على الدفاع عن مصالحها المباشرة.
• إذا كان لمرحلة الاحتلال من فضيلة فهي أنه ساعد المجتمعات العربية على الإجماع على العدو المشترك الذي يتعين الاحتشاد ضده، الأمر الذي هيأ تربة مواتية لظهور خطاب إيديولوجي وطني تحدى ذلك العدو، وكانت فكرة القومية العربية هي الشعار الذي جذب النخبة السياسية بعد إقامة الدولة الحديثة، إلا أن ذلك الشعار ظل نخبويا لأنه ارتبط بأداء السلطة في لحظة تاريخية معنية (المرحلة الناصرية مثلا) ولم يتم تنزيله إلى المجتمع. وكانت النتيجة أن العالم العربي انتقل من طور إيديولوجية الاستقلال الوطني، إلى إيديولوجية الطوائف التي تشهد تجلياتها قوية في الوقت الراهن. فانتقلنا من القتال ضد عدو الوطن إلى القتال ضد شركاء الوطن.
• من المفارقات أن الخبرات العربية إذا كانت قد اختلفت عن الخبرات الغربية في أمور كثيرة، إلا أنها اتفقت في ظاهرة تراجع الدور القتالي للجيوش، مع فرق كبير بين طبيعة ذلك الدور على الجانبين. ذلك أن الجيوش العربية أصبحت تتوزع الآن تحت عنوانين هما العجز والأمن. فبعضها يعانى من الانهيار الذي أعجزها عن أن تقوم بمهامها القتالية. والنموذج واضح في العراق واليمن وليبيا ولبنان. وهو ما حولها إلى قوى استعراضية أكثر منها قدرة قتالية. والبعض الآخر انضم في حقيقة الأمر إلى قوى الأمن الداخلي كما هو الحاصل في سوريا والجزائر ودول أخرى في المنطقة.
• بشكل مواز فإن المهام القتالية ــ الايجابي منها والسلبي ــ أصبحت تقوم بها الجماعات الأهلية وليس الجيوش (جيش المهدي ــ عصائب الحق ــ أنصار الله ــ داعش ــ جبهة النصرة ــ حزب الله ــ أنصار الشريعة ــ حماس والجهاد). وأغلب تلك الجماعات من أصداء الحروب الإيديولوجية الجديدة التي ظهرت في الفضاء العربي. وكنت قد ذكرت أن المقاومة الفلسطينية وفى المقدمة منها حماس والجهاد هي القوة الوحيدة التي تخوض المعركة ضد التحدي الإسرائيلي الأكبر الذي يهدد الأمة العربية.
• في حين انتهت الحرب الباردة بصورة نسبية في العالم الخارجي، فإن العالم العربي ــ على الأقل في صورته الراهنة ــ دخل شكلا آخر من أشكال تلك الحرب. تؤيد ذلك التحالفات التي نشهدها الآن، التي تبلورت بشكل أوضح بعد هبوب رياح التغيير التي أشاعها الربيع العربي، فتفاعلت معها بعض الدول وقادتها دول أخرى، وفى الوقت الراهن تبدو كفة الدول الأخيرة أرجح.
• من المفارقات اللافتة للنظر في المقارنة بين الخبرتين الغربية والعربية، أنه في حين صدم الغرب في آخر القرن الماضي بأحداث سبتمبر الشهيرة، الأمر الذي أطلق في محيطه بقوة ظاهرة الحساسية ضد الإسلام فيما عرف بالإسلاموفوبيا، فإن الظاهرة ذاتها احتلت مكانها في الفضاء العربي في القرن الجديد. وكما أن الإعلام الغربي ظل يندد آنذاك بما سمي الإرهاب الإسلامي، فإن الخطاب السياسي والإعلامي في العالم العربي لم يعد يتحدث إلا عن العنوان ذاته، بنفس المفردات.
(4)
أعترف بأن ما دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع أنني خلال عطلة العيد طالعت عددا غير قليل من التقارير والتحليلات الغربية التي اعتنت بتشريح العالم العربي ومحاولة فهم ظواهره المختلفة. وكانت قضية الفشل الديمقراطي والإرهاب والعنف على رأس العناوين التي حظيت باهتمام الباحثين. وقد لاحظت أن أكثرهم حين ركزوا على هذين العاملين فإنهم لم يربطوا بينها، ولم ينتبهوا إلى الدور الذي أسهم به تغيب الديمقراطية في إذكاء العنف وتوفير التربة المواتية له. ولم يخل بعض تلك التحليلات من طرافة، حيث قرأت في صحيفة «الحياة» اللندنية دعوة تكررت أكثر من مرة لإنقاذ اليمن من أزمته من خلال تحليل كان عنوانه «الديمقراطية الليبرالية هي الحل لليمن ولغير اليمن». ولم يستوقفني مضمون العنوان بقدر ما استوقفني أنها كانت نصيحة سعودية لليمنيين، لأن من أطلق الدعوة أحد الإعلاميين السعوديين البارزين.
——–
الجزيرة . نت