روى الحاكم «عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما دخل رسول الله عام الفتح،رأى النساء يَلطمن وجوه الخيل بالخمُر، فتبسم إلى
أبي بكر ، وقال: «يا أبا بكر كيف قال حسان بن ثابت؟» فأنشده أبو بكر :
عَدِمْت ثَنِيتي إنْ لم تَرَوها تُثِير النَّقعَ مِن كَتِفَي كَدَاءُ
يُنازِعْنَ الأعِنَّة مُسْرعاتٍ يُــــلَـطِّـمْــهُــــن بـالـخُمُـــرِ النّســــــاءُ
فقال رسول الله : «ادخلوا من حيث قال حسان» (1).
هذا حديث من الأحاديث اللطيفة في باب الشعر، وفيه أربع مسائل:
أولها أن المناسبة فتح مكة، وقد كان ذلك سنة ثمان من الهجرة.
وثانيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك المشهد، وسمع قبله الشعر المرتبط به، فكان قوله: «ادخلوا من حيث قال حسان» دالا على حدوث كل ذلك قبل فتح مكة.
ومعنى «يُلَطِّمْهُن بالخُمُرِ النسـاء» عند ابن الأثير: «ينفضن ما عليها من الغبار، فاستعار له اللطم» (2)، وهو عند شارح ديوان حسان: «فاجأتهم الخيل، فخرج النساء يلطمن خدود الخيل يرددنها لترجع» (3).
وبين المعنيين فروق: منها أن النساء في الأول مسلمات، وفي الثاني مشركات، ومنها أن الواقعة كانت في الطريق إلى مكة حسب المعنى الأول، وبمكة حسب المعنى الثاني.
وقد يرجّح المعنى الأول أمران:
كون الرؤية النبوية للنساء كانت قبل دخول مكة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «ادخلوا من حيث قال حسان»، فدل على أنهم لم يدخلوا مكة بعد.
وكوْن الظرف عصيبا، وقد فرّ فيه بعض المشركين، وغلّق البعض عليهم الأبواب، ونُودي بمكة: «مَن دَخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومَن دخل المسجد فهو آمن» (4)، فكيف يُتصور أن تتجرأ النساء على الخروج من منازلهن أولا، ثم على اعتراض خيل المسلمين ولطمها، دفعا لها نحو الرجوع؟!
وأما المسألة الثانية فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى فعل النساء بالخيل تبسم إلى أبي بكر ، وعلة تبَسُّمه تَذَكُّره ما سبَق أن سَمِعه من شعر لحسان له صلة بالمناسبة، وقد طلب مِن أبي بكر أن ينشده إياه، وفيه أن النبي كان يسمع شعر حسان، وأن أبا بكر كان راوية للشعر، وأن النبي كان يعلم حفظه له وقوة استحضاره، ويُقويه ما رواه الإمام أحمد في مسنده : «كان عروة يقول لعائشة: يا أمتاه ولا أعجب من فهمك، أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس…» (5).
وأما المسألة الثالثة فهي أن موضوع الحديث بين النبي وأبي بكر شعر حسان، وقد ذكر أبو بكر بيتين مقتصرا على محل الشاهد، وهما من قصيدة حسان الهمزية المشهورة التي يقول فيها:
هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأَجَبْت عَنْهُ وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
هَجَــوْتَ مُحمَّـــدا بَــرّا تَقيـــا رَسولَ اللّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنّ أَبِي وَوَالِـدَهُ وَعِرْضِــــي لِعَرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُـمْ وِقَــاءُ (6)
ويفيد حديث الباب، وسياق الإنشاد للقصيدة في صحيح مسلم (7) أنها أنشدت قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم للفتح؛ بل ما أنشدها حسان إلا في سياق الرد على المشركين بطلب نبوي، وهو ما تظهره القصيدة نفسها، ومنها الأبيات التي أوردناها آنفا، وفيها رد على أبي سفيان، فكيف نقبل بعد ذلك إيراد ابن هشام لها ضمن ما قيل في الفتح، وقوله بين يديها: «وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان» (8)، ثم قوله عقبها: «قال ابن هشام: قالها حسان يوم الفتح» (9).
ويبدو أن محل الإشكال كون حسان يذكر الفتح في القصيدة، في قوله:
فإنْ أَعْرَضتمو عَنّا اعْتَمَرْنَا وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلا فَاصْبِرُوا لِضِرَاب يَوْمٍ يُعِــــز اللّــــهُ فِـيـــهِ مَـــنْ يَـشَـــــاءُ
ومعلوم أن النبي في خرجته تلك لم يكن يريد العمرة؛ بل الفتح، وأنه خرج يريد العمرة سنة ست فكان صلح الحديبية، ثم خرج معتمرا سنة سبع فيما عرف بعمرة القضية، والظاهر أن هذا مقصود حسان، وأنه كان يهدد قريشا إن هي منعت رسول الله من العمرة بناء على اتفاق الحديبية، فيكون شعره سابقا على الفتح بسنة.
وحمْل قوْل حسان «يلطمهن بالخمر النساء» بالمعنى الثاني على ما قبل فتح مكة ممكن؛ لأن قريشا كان لديها استعداد لخوض مزيد من المعارك، ونساء قريش كانت لديهن الجرأة وقتها لاعتراض خيل المسلمين.
ومهما يكن فإن معاني شعر حسان حاضرة في ذهن النبي ، وهو يذكرها في مناسبتها، وربما استعادها، واستنشد الشعر المعبّر عنها، وفيه منقبة لهذا الشاعر الذي خدَم الدعوة الإسلامية، ومنْحه قيمة إضافية؛ لحضوره في لحظات حاسمة.
بقيت إشارة إلى أن الرواية التي تتداولها المصادر الأدبية وهي رواية الديوان، هي:
عَدِمْنا خَيْلَنا إنْ لمْ تَرَوْها تُثِير النَّقْعَ مَوْعِدُها كَداءُ
وهذه الرواية أصرح وأوضح للمقصود.
وأما المسألة الرابعة فهي أن رسول الله لما سمع البيتين قال: «ادخلوا من حيث قال حسان»، يقصد بذلك موضع كداء كما في البيت الأول منهما، وهو «موضع الثنية التي في أصلها مقبرة مكة» (10)، و«كداء التي دخل منها النبي هي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة، وهي التي تهبط منها إلى الأبطح، والمقبرة منها عن يسارك» (11).
واختيار النبي الدخول من كداء منقبة أخرى لحسان، وهي إشارة لطيفية إلى محل شعره لدى النبي ، وتقدير لما بذله من جهد في خدمة الدعوة، وتذكير بأن مكانته محفوظة، وشعره حاضر، وأن معاني الشعر الجاد محل عناية وتقدير.
وليس لقرار النبي الدخول من كداء من سبب إلا قول حسان، وكأن اختيار هذا المكان مكافأة لهذا الشاعر، وقد حفظتها وتداولتها كتب الحديث والسيرة والتاريخ والأدب والجغرافية… وفي ذلك الاختيار توجيه لطيف إلى ضرورة العناية بطاقات الأمة وكفاءاتها، وحسن اختيار المكافآت لها مما قد لا يُكلّفنا شيئا؛ ولكن يحمل مِن الدلالات الإيجابية الكثير.
———————
(1)- المستدرك (4/19، حديث رقم 4499). قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».وقد ذكره ابن حجر في (فتح الباري، 8/10)، وقال: «إسناده حسن».
(2)- النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/251، مادة «لطم».
(3)- ديوان حسن بن ثابت، ص: 74.
(4)- سيرة ابن هشام، 4/37.
(5) مسند أحمد، 17/314، حديث رقم 24261، وقد علق عليه محققه بقوله: «إسناده حسن؛ لأجل عبد الله بن معاوية».
(6) – ديوان حسان بن ثابت، ص: 71-77.
(7) – صحيح مسلم، 16/41-44، ح.ر2490، ك.فضائل الصحابة، ب.فضائل حسان…
(8) – سيرة ابن هشام، 4/58.
(9) – م.س.
(10) – م.س.
(11) – معجم البلدان، 4/440.