روى النسائي «عن قيس، قال: قال عمر: قال رسول الله لعبد الله بن رواحة: «لو حركت بنــا الرِّكاب». فقال: قد تَركتُ قَولِي. قال له عمر: اسمع وأطع. قال:
اللهم لولا أنتَ ما اهتدينا *** ولا تَصَدّقنا ولا صَلَّينا
فأنْزلنْ سَكِينـةً عَلَينا *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا
فقال رسول الله :« اللهم ارحمه». فقال عمر: وجبت.(1)
كانت لنا في الحلقة السابقة وقفة مع المسألة الأولى من المسائل الخمس في هذا الحديث، وفي هذه الحلقة تتمة لباقي مسائله.
أما المسألة الثانية فهي أن المُطالَبَ بتحريك الركاب هو عبدُ الله بن رواحة، وهو من السابقين الأولين من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، شهِد بدرا وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة، وكان أول خارج إلى الغزو وآخر قافل، وقد عُرف عنه أنه كان إذا لقي صاحبا له قال له: «تعال نؤمن ساعة» (2).
وينبغي أن نلاحظ في حديث الباب قول عبد الله: «قد تركتُ قولي»، وهو دال على تركه قولَ الشعر، وزهده فيه، وفي ذلك تحوُّلٌ في شخصية هذا الرجل لم يُلتفت إليه، فالظاهر – بناء على ما قدمناه آنفا من ارتقائه الروحي- أنه قرر قطع الصلة بالشعر.
وقد رأينا في حديث سابق أن الشاعر نفسه كان يرتجز بين يدي النبي بمكة (3)، فكيف نجمع بين الحديثين؟
الأمر يسير، فرجز ابن رواحة كان في عمرة القضاء سنة سبْع من الهجرة، أما ما طُلب منه هنا فهو قبْل ذلك، على أن عبد الله ذَكر أنه ترَك الشعر، وهو دال على أنه فعَل ذلك قبل هذه اللحظة، وهو هنا يَذكر ذلك الموقف الذي اتخذه، وقد شاء الله تعالى أن تَكون هذه المناسبة التي نعلم فيها هذا التحول في تعامل عبد الله مع الشعر هي نفسها التي ستعيد نسج علاقته به، فسيتخلى عن ذلك الموقف منذ هذه اللحظة بتوجيه من عمر.
وأعتقد أنه على المؤرخين للحياة الشعرية لابن رواحة أن يستفيدوا من هذا المعطى في تبرير قِلة ما وصَلَنا من شعر ابن رواحة مقارنة بشعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك، فهذا التحول دال على فترة انقطاع، ثم على تراجع كمي في الإنتاج الشعري.
وأما المسألة الثالثة فهي أن الشعر الذي اختاره ابن رواحة لتحريك الركاب هو نفسه الشعر الذي نراه قد استُعمل في عدد من المناسبات، منها حفر الخندق، والمسير إلى خيبر، وقد سبقت الإشارة إليهما، وهو على كل حال شعر مفعم بالإيمان، حسبنا منه أنه يُوَلِّي وجهه شطر أمرين:
أولهما الإقرار بأن الله هو الهادي، وأنه لولاه لما اهتدى المهتدون، ولا صلى المصلون، أو تصدق المتصدقون، فهو الذي وَفَّق للهداية والصلاة والصدقة.
والثاني دعاء ابنِ رواحة اللهَ تعالى أنْ يُنزل على المسلمين السكينةَ ويثبِّتَ أقدامَهم عند ملاقاة العدو.
وقد يُشعِر هذا الشعر أن الرُّكوب المتحدَّث عنه آنفا ركوب غزو.
وأما المسألة الرابعة فهي أن عمر بن الخطاب هو الذي تدخل لجعْلِ ابنِ رواحة يُحَرِّك الرِّكابَ لا النبي ، فكأنّ رسول الله ترَكَ عبد الله وموقفه، بينما فَهِم عمَرُ أن الطلب النبوي على سبيل الوجوب كما يَظهر من قوله: «اسمع وأطع»، فمَعَ أنَّ هذا الطلَب قُدِّم بصيغة «لو حركتَ»، وأن ابن رواحة لم يَفهم منها وُجوبا، إلا أن عمر فَهِم فهْما مختلفا، فالطلَب النبوي بأيّ صيغة كان هو طلَب للتنفيذ، وينبغي أن يُقابَل بالسمع والطاعة، وقد عبَّر عمر عن ذلك بصيغة الفعل، واستعمل فِعْلَيْ أمر لا فِعلا واحدا، وذلك ما جعل ابن رواحة يتخلى عن موقفه ويُنشِد الشعر.
والعجيب أن حديث عمر مع عبد الله بخصوص الشعر سيرِد مرة أخرى بمناسبة عمرة القضاء، وستَخْتَلِف المواقفُ تماما، فابنُ رواحة الذي تَرك هنا قولَ الشعر سنَراه هناك يَرتجز بمبادرة منه، وعُمَر الذي نراه هنا يَدعوه إلى السمع والطاعة نراه هناك يَستنكر عليه فِعله، ويقول له: «يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟!» (4).
وقد يكون مبرِّرُ هذا الاختلاف بخصوص عمر، أن المناسبة مختلفة، وأنّ هناك فرقا بين حال السلم وحال الحرب، وبين أن يَكُون المرء في الحرَم وأن يَكُون في غيره، وبين أن يَكُون بطلب نبوي، وأن يَكُون بمبادرة شخصية…
وأما المسألة الخامسة فهي أن النبي قال بعْدَ أن انتهى عبد الله بن رواحة من إنشاد الشعر: «اللهم ارحمه»، وهو دعاء دال عن رضا نبوي لسببين: أولهما استجابة ابن رواحة لطلبه بتحريكه الرِّكاب، وثانيهما المحتوى الشعري الراقي الذي استعمله في ذلك.
ثم إنه يُفهم من الدعاء النبوي أمران:
كونه يريد لهذا الشاعر أن يَستمِر في قول الشعر وإنشاده، ويترك الموقف الذي اتخذه.
وكونه راضيا عن أداءِ شاعره.
———————
(1) – السنن الكبرى للنسائي، حديث رقم 8250، ك.المناقب، ب.عبد الله بن رواحة. صححه الألباني في (الصحيحة، حديث رقم 3280 ). وفي وزن الشطر الأول خلل، وفي (شرح صحيح مسلم، 12/131، حديث رقم 1802/124) «والله لولا الله ما اهتدينا».
(2) – تنظر مناقبه في الاستيعاب لابن عبد البر، ص: 396-398، والإصابة، 4/72-75.
(3) – صحيح سنن الترمذي، 3/136، حديث رقم 2847، ك.الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر.
(4) – صحيح سنن الترمذي، 3/136، حديث رقم 2847، ك.الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر.