سلسلة منازل الإيمان: منزلة الإخلاص 3/3 1


n 425 13

تجديد الإيمان تقوية لمضامين الإخلاص

في الحلقة الأولى تصدى الشيخ رحمه الله تعالى، للحديث عن منزلة الإخلاص وبين أن الذي يحصلها هو من يجتهد في الدين ويسعى للترقي في منازل الإيمان والتزكية، كما بين أن كل الأعمال خاضعة للميزان يوم القيامة، وأن استكثار الأعمال يقود إلى المن والمن يحبط الأعمال، ليخلص في الأخير إلى أن الإخلاص كالإيمان.

وفي الحلقة الثانية بين أن الإخلاص تنقية للقلب وتصفية للوجدان، وأنه حركة في القلب مهمتها تصفية الأعمال.

1 – خلق الله الكون فكان أحقّ بأن يكون رباً له :

قُل اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، غاية الغايات هي توحيد الله عز وجل، وهذا الذي أردنا أن نصل إليه بإرادة الله عز وجل له، عجيب جدا هذا التعبير، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصف ذاته سبحانه وتعالى هاهنا بأنه رب العالمين، والرب هو المالك كما أجمع عليه العلماء في التفاسير وفي غيرها، صاحب الشيء، ولا يكون مالكاً على الحقيقة إلا إذا كان خالقاً مبدعاً منشئاً من عدم، خلق الكون فكان أحقّ بأن يكون ربّاً له، وكان بناء على ذلك أحق بأن يكون إلها معبوداً سبحانه وتعالى، وهذا ما يُسمى بحقّ الخالقية، خلق فكان له حقٌّ أن يُعبَد، إذ لو لم يَخلُق لما كان له هذا الحق، ولكن الله جل جلاله خالقٌ، فكان بكونه خالقاً ربّاً مالكاً، وحُقَّ على الناس أجمعين أن يعبدوه بهذا الحقّ، ولأمر ما فيه شيء من هذا، كان أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، هذا أول تعريف عرَّف به الله عز وجل نفسه سبحانه لرسوله محمد أنه الَّذِي خَلَقَ، وقوله تعالى: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هذا حق له سبحانه، ليس منة من أحد عليه عز وجل، بل حقّ واجب عليك أيها العبد، متعلِّق بذمتك من حيث كونك مخلوقاً للخالق رب العالمين قُلْ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ.

2 – الغاية من التوحيد، أن تخلص لله اعتقادك، وأن تخلص لله أعمالك :

وهاهنا نَخلص إلى توحيد الله عز وجل، نخلص إلى كلمة الإخلاص، «لا إله إلا الله»، ونعود إلى سورة الإخلاص، والقرآن بعضه يوصلك إلى بعض، لأنه نسق كله، مجموع كله، وسورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤا اَحَد، ربي عز وجل سماها سورة الإخلاص، واسم هذه المعاني وهذه المفاهيم عند العلماء هو ما سُمي بعد في الاصطلاح العلمي بعلم التوحيد أو توحيد الله عز وجل، ولكن الله سبحانه وتعالى قال: «الإخلاص»، لأن الاسم قد يقتضي المُسمى وقد لا يقتضي، هذا سرّ من أسرار التعبير القرآني، ما معنى هذا الكلام؟ الاسم قد يقتضي المسمى وقد لا يقتضي، كم من أحد اسمه محمد، موجود مع الأسف من أبناء المسلمين من اسمه محمد، ولكن لا يؤمن بالله، عبد الله، نور الدين وهو عدو الدين، موجود -مع الأسف الشديد- فلذلك قد يكون الإنسان يَعلَم من التوحيد الشيء الكثير، تسأله عن التوحيد يجيبك، ولكن قلبه خال خاو من الإخلاص، ربي غني عن توحيدك في تلك الساعة، توحيده توحيد ظاهر، وليس توحيدا باطنا، والباطن هنا ليس بالمعنى الباطني، وإنما الباطن بالمعنى العام اللغوي، باطن الاسم، كما هو في القرآن الكريم، فقال الله عز وجل «الإخلاص» وجعله اسما لسورة من سور القرآن وهي سورة الإخلاص، لأن الغاية من التوحيد، أن تُخلص لله اعتقادك، وأن تُخلص لله أعمالك، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، أخلِص قلبك لهذا المعنى، اعبد إلها واحدا واشعر بذلك، تَحَسسه، اسع لاكتساب أعلى مقاماته، وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، قُلْ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، اعمل على هذا، صلاتك، صيامك، زكاتك، حجك، برك، خيرك، ذبائحك، كل ما تفعل اجتهد على أن تجعلها لله حقّاً وصدقا، وهذا يحتاج إلى اجتهاد كبير، مثلا في يوم العيد عندما تحضر الأضحية تكون قد خلصت قلبك، فلا تغتر بكونك قد اشتريت كبشا كبيرا ليراه الجيران، هاهنا لم تستفد من قوله عز وجل وَنُسُكِي، لم تستعملها جيدا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فهي ناقصة، فلذلك هي مراتب، يمكن أن تكون ناقصة –لا قدر الله- المائة في المائة، إذن لا نُسُك لك، يمكن أن تكون ناقصة خمسين في المائة، ثمانين في المائة، فأنت إذن تجتهد، وغايتها الصفاء التام، إذن لم تبق من المخلصين فقط وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين، يعني عمل بسيط، مُخْلِصِينَ اسم فاعل، ولكن حينما تترقى في مدارج ذلك، وتعلو بترقية الله لك، تصبح مُخلَصاً، اسم مفعول، قال عز وجل في حق عبده يوسف : إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، اسم مفعول، يعني وقع عليه فعل الإخلاص، وكيف ذلك؟ أخلَصَ هو لله أولا، ثم أخلَص، فأخلصه الله إليه، «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب»، «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، -ما شاء الله-، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، إنه مقام الإخلاص الذي يساوي مقام الولاية، ولكن الولاية بالاصطلاح الشرعي وليس بالاصطلاح الخرافي، الولاية الحقَّة حينما يصبح العبد مخلَصا لله عز وجل، المخلَص في المعنى اللغوي البشري، أَخلصه لنفسه، يُخلِص الملك خلصاءه، يعني الوزراء والمقربين، يجعلهم بجانبه، هذا في الاستعمال البشري، ولله المثل الأعلى، حينما يتقرب العبد بإخلاصه لله ويجاهد إبليس، يظل في صراع مع إبليس في الأعمال، ويصفي ويشذب ويهذب ويحارب من هاهنا، ويحارب من هاهنا، كلما قام بعمل صالح إلا وهو محتاط من إبليس، ثم يسعى إلى عدم تسميعه، أو إلى الرياء به، أو إلى إتباعه بالمن والأذى… إلخ، من مداخل الشيطان، وهو يجتهد ويجتهد، حتى إذا أخلص في ذلك جعله الله مخلَصا، يجعله من أهله سبحانه وتعالى، أي من أوليائه، «من عادى لي ولياً»، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، عبادي، والياء للإضافة، والإضافة تفيد النسبة، يعني هؤلاء أوليائي يا إبليس لن تقدر عليهم، ليس لك عليهم سلطان، وهذه مرتبة الإخلاص العليا، مخلَص، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي أن الله أخلَصه إليه، فحماه من إبليس، لا يضره بعد ذلك سوء إن شاء الله، لأن قلبه أصبح كالمصباح، كالزجاجة، نقيا، أبيض، لا يضره منكر بعد ذلك أبداً، لا يضره منكر من حيث إنه لا يتأثر به، كان يتأثر في مرحلة المجاهدةـ، تنقطه نقطة المنكر فيستغفر ويتوب فتُمسح، تنقطه الثانية فتُمسح، فحينئذ هو ينكر المنكر ويعرف المعروف قلبُه يبيض، فيكون كالزجاجة أو كالمصباح، ويكون حينئذ لا يعرف إلا المعروف، أما المنكر فينكره، فلا يضره بعد ذلك شيء أبدا، لأنه أُدخل في قوله عز وجل: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، ودخل في قوله عز وجل إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، والمؤمن لا يزال يجتهد في تحقيق هذه الرتبة، ومنطلقه وسيفه الذي يقاتل به إبليس هو: «لا إله إلا الله»، كلمة الإخلاص الأولى، يعني لا تتركها وتستغني عن استعمالها بالمرة، ولكن تصحبك حياتك كلها دائما معك «لا إله إلا الله»، هذه العبارة التي منطوقها التزام وشهادة تقرّ بها في قلبك ولسانك، لها وظائف بعد ذلك، هي تجديد الإيمان، تُجَدِّدُ بـ»لا إله إلا الله»، وإنما تجديد الإيمان تقوية مضامين الإخلاص، لأنا قلنا بأن الإيمان والإخلاص في الزيادة والنقصان بمعنى واحد في هذا السياق، كيف ذلك؟ الإله هو المحبوب المرهوب، هذه الكلمة ألِه يَأْلَه، أي أحَبَّ، أو خاف أو حزن، كلها معان قلبية، ومن مشتقه الاشتقاق الأكبر «الوَلَه» الهمزة انقلبت واوا، والوَلَه هو الحزن الشديد أو الحب الشديد الذي قد يؤدي إلى الجنون والعياذ بالله، فإذن المقصود هو حاجة قلبية قوية، فحينما تقول «لا إله إلا الله»، أي لا محبوب بحق ولا مرهوب بحق إلا الله، وهذا المعنى لا يمكن أن يتحصل في القلب مرة واحدة، يتحصل من حيث الشهادة الذهنية التصورية العَقَدية، حينما يُسلم المسلم ويشهد أن لا إله إلا الله، لكن المعنى الثاني الذي هو معنى الإخلاص الذي به سُمّيت كلمة «الإخلاص»، فله مراتب، فما يزال العبد يذكر الله عز وجل بلا إله إلا الله، ليس باللفظ فقط، ولكن أيضاً بالثبات عليها حينما تهبُّ عواصف إبليس، عندما يحاول إبليس أن يُوقعك في الشرك القلبي قل «لا إله إلا الله»، اثبت عليها، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ.

3 – سلطان الخالقية :

وهذه من المسائل القوية في هذه الآية، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وفعلاً لما تسمع وتشعر بأنك مأمور بهذا، فأنت لست مخيَّرا، تعمل إن أردت وتترك إن أردت، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، ليس لدي خيار، والآمر هنا هو الذي ذُكر قبل، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أمَرَك الذي فطرك، أمرك الذي خلقك، وأمرك بقوة سلطانه عليك سبحانه، وإنما سلطانه عز وجل عليك هو سلطان الخالقية، خلقك فكنت، ولو شاء لما خلقك فما كنت، إذن هذا سلطان مطلق، سلطان عظيم، ما فوقه ولا بعده سلطان، أُمرت وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، ليس بين يديك إذن إلا أن تكون خاضعاً وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، فكان محمد إذن أول المسلمين، إنما أول هنا ليس بمعنى العدّ، واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، ولكن بمعنى الغاية، أعلى مرتبة في الإخلاص لله عز وجل، ولذلك في الحديث «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»، والحديث مُخرَّج في صحيح الجامع الصغير وفي غيره، «سيد ولد آدم» بما آتاه الله عز وجل من إخلاص، ومن شكر عظيم لله عز و جل، مَنّاً من الله وفضلاً منه سبحانه وتعالى، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أول الخاضعين لله، الخاشعين له، «أما وإني أعبدكم لله وأتقاكم له» كما قال في حديث الرهط الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله ، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالّوها، أرادوا أن يسبقوا النبي ، أحدهم أراد أن يصوم الدهر، آخر زهد في الزواج، والثالث أراد أن يْقوم الليل ولا ينام، فلما بلغته مقالتهم غضب فقال: «أما وإني أعبدكم لله وأتقاكم له» وأنا أول المسلمين، بم كان أول المسلمين؟ إذ أيقن قُلْ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَه، جمع كل شيء، ما شاء الله، وقال وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، هذه هي التي تحرج الإنسان، وَبِذَلِكَ أُمِرْت، ما علي إلا السمع والطاعة وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ما دام أنك قد أُمرت فما عليك إلا أن تستجيب، استجب لله، وحقق التوحيد بشهادة «أن لا إله إلا الله» وأتبعها مُتَّبِعاً رسول الله بشهادة أن محمدا رسول الله، واسع لتصفية أعمالك، ولا تيأس، ولا تملّ من التصفية بالإخلاص، بهذا المعنى الثاني، وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، لا يعمل من عمل إلا وهو يَذكُر عيبَه، ومن منا لا عيب فيه؟، ومن زعم أنه بلا عيب فقد ادعى ما ليس له من منزلة، عِصمة، ولا عصمة إلا للأنبياء، فالمؤمن خطاء، «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، وكثير من العامة يقوم بأمور مخالفة للصواب ويسعى بقلب رفيق (إن شاء الله) لِتُصْلح له تلك الأعمال، بمجرد أن يشعر بأنك تَعِظَه يقاطعك قائلا: أنا من المتقين، لا أسرق ولا أزني…، سبحان الله، هذا كلام لا يليق. فالمسلم لا يقول هذا، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ اَسْلَمُوا، وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر، بالعكس، الكَيِّس من دَانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، وأَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون، يَدين نفسه، فعلت وفعلت، اسمع النصيحة، اسمع كلمة «اتق الله» فليس لك فيها إلا الخير إن شاء الله، ويتدرب ابن آدم على التواضع في الدين، تدرّب عليه، رَبِّ نفسك عليه، ولكن ابن آدم والعياذ بالله بتأثير الشيطان فيه كِبْر، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْاِثْمِ فحسبه جهنم والعياذ بالله وبئس المصير، نسأل الله العافية، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، يتكبر ويغتر، وكان عليه أن يرضى بحكم الله ويخضع لسلطانه، فإنما خُوطب بالله، وبوجه الله، وبسلطان الله، فالواجب أن يخشى الله، وأن يخاف الله، وأن يتقي الله، وليحذر من أن يغره إبليس، ويحتقر من نصحه، مدعيا أنه ليس على صواب وأنه كذلك بحاجة إلى النصيحة، والواقع أنك لست مسؤولا عن مخالفته للصواب، هو خاطبك بـ«اتَّق الله» دعه يبوء بإثم مخالفة القول العمل، إن كنت توقن فعلاً بأنه يفعل ذلك، احذر من أن يكون إبليس يهيئ لك أنه هو فاعل وفاعل وجاء يقول لك اتق الله، تلقف أنت واربح هذه الهدية «اتق الله»، قل نعم سمعنا وأطعنا، اللهم اجعلنا من المتقين، أنا خطاء وأرجو أن أكون من التوابين، وأرجو أن أكون من المتطهرين، وارجع إليه أنت، لأنه عندما تقبلت منه النصيحة فحتى هو سيقبل منك، أما إذا تكبرت عنه فصعب جدا ساعتها أن يسمع منك إلا أن يكون من المتقين، وإذا سمع منك وأنت لم تسمع منه اعرف بأنك خاطئ بنسبة كبيرة جدا، سمع منك هو، وأنت ما سمعتَ منـه، فهـذه مصيبــة إذن،

من هنا ما ينبغي لمؤمن أن يمدح نفسه خصوصاً فيما يتعلق بأمور الدين، اللهم إلا ما خصّه الدليل، فالإنسان لا يتقدم لأمر إلا إذا رجح أنه تعين للضرورة أن يتقدم وأن يزكي نفسه لمصلحة راجحة، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْاَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، حكاية عن يوسف عليه السلام، لأن ملك مصر لما أراد أن يُخلِص يوسف إلى نفسه، أراد أن يُقرِّبه من بعد نهاية القصة كأنه خَيَّره فيما يريد، أو أراد أن يجعله وزيراً، أو شيئا من هذا القبيل، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْارْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، حفيظ، أي أمين، عليم، عنده خبرة بالحساب، وعنده خبرة بوسائل تحفيظ الزرع، وقد حدث ذلك في تأويله للرؤيا، هذا الأمر خاصٌّ بحالة خاصّة، لأنه في مجتمع ليس فيه من ينافسه، هو يجب أن يكون إماما، تعينت إمامته للضرورة ليدعو إلى الله عز وجل، فمن تعينت إمامته وشهادته، تعينت شهادته بالضرورة، جاز له مثل ذلك.

4 – مما يفسد الإخلاص :

أما في سياق النصح، والدعوة إلى الله، والمصالحة بين الناس، مثلا شخصين متخاصمين وأنت تريد أن تصلح ذات بينهم، فيأخذ أحدهم في مدح نفسه، هذه ليست بأخلاق المسلم، هذه فعلاً مما يدمر الأعمال، ويخرب الإخلاص، ويقطع الطريق أمام العبد من أن يصل إلى هذه الرتبة، إنما يصلها -منزلة الإخلاص- من تواضع لله، ومن تواضع لله رفعه، وما ألطف حديث الرسول حينما قال: «إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد»، «إنما أنا عبد لله».

المؤمن إذن ما ينبغي له أبداً أن يخالِف هذا الوِزان، وأن يخرم هذه العقيدة إذا رسخت في ذهنه وقلبه، بل يجب عليه أن يسعى لترقية رتبته منها، إخلاصاً، فإخلاصاً، فإخلاصاً، حتى يكون من المخلَصين، والآية مشعرة بذلك، أي الآية المذكورة قبل قُلْ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، فذِكره عز وجل «المحيا والممات» يعني العمر، كل السير، فأنت تسير عمرك كله وأنت تحقق «لا شريك له»، «لا شريك له»، «لا شريك له» في عملك، في قولك، حتى تلقى الله.

فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا لك من الشاكرين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلَصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلَصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلَصين.

———–

* منزلة الإخلاص من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي.

 

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي


اترك رداً على زكية برواين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “سلسلة منازل الإيمان: منزلة الإخلاص 3/3

  • زكية برواين

    الإخلاص مقام إيماني رفيع ، طريق الوصول إليه بمراقبة أحوال القلب والاشتغال فيه ، بإروائه ؛ بالذكر والدعاء والتزام الاستغفار والتسبيح ، حتى يصير القلب شفافا حيا ينبض ، والبوصلة التي تحرك صاحبها في اتجاه الخيرات ، وهذه هي الرياضة الروحية الحقيقية للقلب ، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الخلص ….

    فخلوص النية خلاصة العطية ….