قد تستغرب طائفة ممن لهم صلة بالشأن التعليمي بالمغرب إطلاق هذا الحكم على «المنظومة» التعليمية التربوية المغربية، وتسمه بالقسوة والإجحاف، اعتقادا منهم بأن هذه الأخيرة قد حققت أهدافا لا يستهان بها على مستوى الجودة في الأداء، ومن ثم في بلوغ المرامي وتحقيق المقاصد المنوطة بها على حد سواء.
والحق أن كل من عايش هذا النظام عبر أطواره المتراكبة، ونفذ إلى أعماقه وخباياه، من منطلق التخصص والممارسة الميدانية، يمكنه أن يبرهن بألف دليل ودليل، على مصداقية الحكم المذكور وموضوعيته، اللتين تتجليان في مختلف الجوانب والأبعاد.
جاء في «قاموس المعاني» : «الخَرْقاءُ : الأرضُ الواسعةُ تَنْخَرِق فيها الرياحُ.
و الخَرْقاءُ من الرِّيح : الشديدة الهبوب.
و الخَرْقاءُ التي لا تدُوم على جهةٍ في هُبوبها.
و الخَرْقاءُ المرأَةُ غيرُ الصَّنَاع.
و الخَرْقاءُ النَّاقةُ لا تَتَعهَّد مواضع قوائِمها».
فنحن إذا دققنا النظر في هذه المعاني في ضوء واقعنا التعليمي وجدنا أغلبها منطبقة عليه بشكل غريب، فريح السياسات التعليمية منذ الاستقلال لم تكد تستقر على حال في توجهها واختياراتها، اللهم إلا حال التبعية والتذبذب والحيرة والاضطراب، فهي لا تعلم ما تقدم ولا ما تؤخر، ولا تكاد تبرم أمرا حتى تبادر إلى نقضه في زمن قياسي، غير آبهة إلى العواقب الوخيمة المترتبة على ذلك التهور والعبث والاستعجال، مما يدل بوضوح على أن تعليمنا فاقد للبوصلة، وما البوصلة إلا الاختيارات الواضحة، المنبثقة من فلسفة محددة المبادئ والأركان، بعيدا عن أي خلط أوتلفيق، تحت ذريعة التوافق التي تبرر للجمع الفاضح بين النقائض والأضداد على مستوى الإيديولوجيات والعقائد والأفكار، مما يدل بشكل قاطع على خلو الوطن من استراتيجية صارمة ودقيقة كفيلة بقيادة سفينة المجتمع على مستوى التشكيل والتكوين والتهذيب، ومن ثم على مستوى صناعة المستقبل والخروج من قمقم التخلف والجمود، الذي أدخل فيه المجتمع عنوة، في غياب استقلالية القرار، وتغييب الطاقات الفاعلة، وفي ظل التنكر لهوية الشعب المتمثلة في مقومات الدين واللغة ووحدة الجغرافيا والتاريخ، الأمر الذي تمخض عنه جيل يفتقد في قطاعات عريضة منه لمقومات القوة والحيوية والتوازن والفاعلية، كنتيجة حتمية لانفراط شمله القيمي وسط رياح هوجاء من المذاهب والتيارات، ومن التوجهات والاختيارات.
وإذا كنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة والإدلاء بالأدلة على أخرقية التعليم ببلدنا وعدم معرفته أين يضع رجليه، وجهله بعواقب قراراته المرتجلة، وتصرفاته المبتذلة، فلتكن هذه الأمثلة من الجديد الذي تفتقت عنه عبقرية السلطة التعليمية التي وكل إليها قيادة سفينة التعليم التي تكاثرت فيها الخروق، وتسرب إليها من المياه ما لا قبل لها به.
المثال الأول يتعلق بمخلوق جديد في عالم الباكلوريا، إنها عروس التعليم المدللة وصاحبة الامتياز، شريفة الحسب والنسب، التي لا يشق لها غبار، ولا يرد لها أمر: الباكلوريا الدولية، إنها إيحاء واضح وصريح، بأن ما سواها يفتقد إلى صفة الدولية، لأنه يفتقد إلى شروطها ومقوماتها، وفي ذلك ما فيه من احتقار لباكلوريا الجماهير، وسوء تقدير لقيمتها واستخفاف لوزنها، وفيه ما فيه من ضرب سافر لوحدة التعليم، أحد المبادئ الأربعة التي شكلت مطلب الحركة الوطنية كشرط لإصلاح جذري للتعليم، والتي ظلت جميعها للأسف الشديد مطلبا عزيز المنال، بسبب الخور وفقدان السيادة في هذا القطاع الاستراتيجي الذي يمثل المحضن الأساس لترسيخ المناعة ومفهوم السيادة، وتوطيد المنعة في كيان الشعب.
أما المثال الثاني فيتعلق بقرار منع الموظفين من ولوج أبواب المؤسسات الجامعية لاستكمال دراستهم وتحسين مستواهم العلمي. ويمثل هذا السلوك ـ بلا شك ـ موقفا مرتجلا غريبا ومشينا في حق شعب ينتمي إلى أمة تبجل العلم وتدعو إلى الاستزادة منه من المهد إلى اللحد وطلبه ولو في الصين، أمة يعتبر فيها مداد العلماء أثقل في ميزان الله من دماء الشهداء، أمة تقرأ صباح مساء، قوله تعالى:قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقوله تعالى: وقل رب زدني علما وغيرها من الآيات التي ترفع العلم إلى المقام الأعلى كقيمة مركزية كبرى إلى جانب قيمة الإيمان، مصداقا لقوله تعالى:يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات(المجادلة : 11).
إن سمة الفوضى والارتجال، هي السمة الغالبة على السياسة التعليمية في البلد، رغم الجهود المبذولة، والأموال المهدورة، و«الإصلاحات» المتوالية، لأنها سياسة بدون فلسفة، اللهم إلا إذا كان لأشتات الأفكار والتصورات الملفقة حظ من شرف الانتساب إلى الفكر الفلسفي الرشيد، وهو أمر لا يقول به أحد من العقلاء.
لقد آن الأوان لسفينة التعليم في المغرب أن تبحر في الاتجاه الصحيح، بقيادة ربابنة مخلصين أمناء أقوياء، وما الاتجاه الصحيح إلا ترسم فلسفة القرآن التي تجمع بين تلاوة الآيات والتزكية والتعليم، مصداقا لقوله تعالى: هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (الجمعة : 2) صدق الله العظيم.