مازال قوله تعالى يرجنا في تشخيصه لنفسيات المنافقين : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون فاضحا للوجوه المستعارة للذين في قلوبهم مرض ويحسبون أنهم مهتدون. وقد كان من صفات المنافقين الأولين أنهم يدارون نفاقهم ويداهنون ويجاملون الذين آمنوا وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون أما أصحاب أقنعة اليوم فهم مرتاحون في ازدواجيتهم مقتنعون بأنهم الحق وبأن الآخرين مجرد إرهابيين ومحرفين للدين ووجب إقامة الحواجز في وجه كل تحركاتهم وإحصاء أنفاسهم والسعي إلى جمعهم في سلة واحدة مع الجهال من سلالة قتلة عثمان ، أولئك الذين حاصروا رجلا عظيما مبشرا بالجنة، رجلا مبجلا تستحيي منه الملائكة وصاحب رسول الله ، واغتياله في يوم صومه يوم جمعة من شهر ذي الحجة وتصريحهم بعد القتلة الشنيعة له أنهم قتلوه لله عز وجل ثم لشيء في أنفسهم كما صرح الملعون عمرو بن الحمق حين طعن سيدنا عثمان تسع طعنات وقال قولته التلبيسية الشهيرة «هذه الثلاثة الأولى لله وهذه الست لشيء في نفسي » .
وهي كما أسلفنا في حلقة ماضية، سياسة ميكيافلية يتم في خضم خلطها المتعمد التخلص من كل حاملي المشروع الإسلامي الرحيم المعتدل من منطلق إدراك المتربصين الحاقدين أنهم الأكثر توازنا ورشدا. وتلك مسرحية سيتكفل الله سبحانه بفضح مروجيها لأن عمر الباطل جد قصير.. ومع ذلك فلسنا بصدد ترسيخ فكر الإرجاء والطمأنينة إلى واقع هزيمتنا بحجة أن الله أعلم بنياتنا وأن اعتدالنا سيجلب لنا النصر عاجلا أو آجلا .
إن ما نراه من اشتعال للعالم العربي الإسلامي بالفتن وتخضب زرقته بالدخان وخضرته بالدماء يجب أن يجعلنا نتداعى للتساؤل عن دورنا في هذه الفتن. أليس انتصار العنف والإرهاب من جانب إخواننا كما من جانب مستعمرينا القدامى والجدد هو دليل لانحسار مد الدعوة الراشدة وتخلينا عن مقعد استنقاذ إيمان الناس وانشغالنا بحجم الرقعة التي نضع عليها أقدامنا، ونشوتنا كلما خرجنا في مظاهرات عارمة وسجلنا حضورنا فأبهرنا العيون وأرهبنا القلوب. ولم يكن رسول الله مشغولا باستعراض قوته وهو ينشر دعوة الإسلام ويقتل الباطل في مجاهيل القلوب الصلدة، بالكلمة الطيبة والعفو عند المقدرة والرحمة للبر والفاجر، ولأن الشيء بالشيء يذكر. فقد كان من آثار تربيته العظيمة رقة ورحمة أن الفاروق بجلالة مهابته يشفق لحال يهودي عجوز يتكفف الناس في الطرقات وغضبه لأجله وحزنه على شيبته، وصرفه جراية له تصون كرامته، وهو الفاروق الذي قيل تجاسرا في قسوته بخصوص المرأة ما تنوء الجبال عن حمل حماقاته لا يستطيع حتى أن يمنع زوجه من رفع صوتها حد سماع العابرين له..(وتلك قصة أخرى) ولو انشغلنا بإيمان الناس وأحزننا ضلالهم لوجدنا الله بنا رحيما وما سلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا ..
وبالعودة إلى الجزء الثاني من حلقتنا الماضية ، فقد مرت بنا في الأشهر الأخيرة أكبر ملحمة لانتصار المسلمين من خلال الشعب الفلسطيني شعب الجبارين. ولعل الكثيرين منا غرقوا في عسل نشوة التفوق على الصهاينة. وما أدركوا أنه نصر محفوف بكل المخاطر طالما ظل رأس الحية صاحيا لمواصلة الكيد، كما أن خلاصات ضرورية يجب أن تعضد توجهاتنا إن كنا رساليين حقا. وعلى رأس هذه الخلاصات اجتناب تجريم اليهود والغربيين جملة ودون تبين، لأن من شأن عدم الحسم في هذا الأمر بالنسبة للرساليين من موجهي الرأي أن يجنح بتابعيهم من العوام إلى التطرف والتشدد والإقصاء حد العنف بكل درجاته. وقد أمدنا سبحانه بعبر ودروس عجيبة إبان اجتياح غزة الماجدة إذ خرجت أكبر المظاهرات ببلاد الغرب ورأينا في صفوفها عجزة لا يقدرون حتى على الخطو يرفعون اللافتات ويبحون برفع شعارات إدانتهم للغزو الهمجي الصهيوني ورأينا شبابا هم في قاموس ثلة من متدينينا مجرد سفهاء ومنحرفين يتحركون في كل المواقع لفضح العدوان الصهيوني، كما رأينا يهودا من منظمة ناطوري كارتا بلباسهم الأسود المميز، وهم يرفضون الاحتلال الإسرائيلي ويدعمون المقاومة الفلسطينية ويتظاهرون لنصرتها.
وقرأنا لضباط وعسكريين يهود يرفضون الخدمة بل ويستقيلون ويعلنون معارضتهم لضرب المدنيين معلنين بأنها ليست حربهم. وقرأنا لمجموعة من اليهود الناجين من الهولوكوست وهم يرفضون أن تتكرر مأساتهم من خلال الشعب الفلسطيني . ورأينا من الغربيين من يعيد للصهاينة جوائزهم العلمية والأدبية ومن يقاطع سلاحهم وسلعهم ومطاراتهم.. ومن ومن ومن.. بل ورأينا بالمواقع الاجتماعية تصريحات في منتهى الإنسانية والرحمة لفنانين كبار لهم أياد بيضاء عظيمة في خدمة المسلمين كما تفعل النجمة العالمية أنجلينا جولي التي يكفي أن تنقر على اسمها في الانترنيت لترى كيف توجه ثروتها لصالح المنكوبين من المسلمين في نقط سوداء من العالم، وكيف ترأف بصغارهم فتحضنهم وتمسح دمعتهم ومخاطهم وتحزن لشيوخهم، بل وتلبس الحجاب في حضرة رجالهم الملتزمين، وتغطي كل مفاتنها وهي توزع المساعدات جنبا إلى جنب معهم بل وأصدرت تصريحا قويا ضد المسيئين للقرآن الكريم، ودعت المسلمين للدفاع عن كتابهم وكان لها تصريح مناصر لغزة بلا مواربة جاء فيه (العرب والمسلمون ليسوا إرهابيين يجب أن يتحد العالم لمواجهة إسرائيل). ولا أحد يستطيع أن يتذكر غزة وجرائم الصهيونية في حقها دون أن يذكر أيقونة التضحية لأجلها الراحلة راشيل كوري الناشطة الأمريكية الصبية التي سكن الشعب الفلسطيني قلبها فرحلت لتعيش معه محنته ولتلقي بنفسها تحت عجلات جرافة الصهاينة لتمنع تدمير منازله .
هي إذن أمثلة قليلة لفيض من حالات الغربيين المناصرين لقضايا المسلمين وهي أكثر من أن تعد ..فهل يحتاج هذا الغرب بمسيحييه ويهودييه وملحديه إلى مقاربة السلطان أو مقاربة الإيمان لتنزيل منظومة الدعوة الرحيمة في حياة البشرية الممعنة في التيه، ذلك ما سنراه في حلقة قادمة بإذن الله
وأدخل الله هذه العشر من ذي الحجة وأيامها المباركة علينا أجمعين بمزيد من التبصر والحكمة والرحمة لبعضنا البعض وللناس أجمعين.