منزلة الإخلاص: الجزء الأول


الإخلاص جوهر الدين ومآل العبادة وخلاصة الإسلام

 1 –  منزلة الإخلاص يحصلها من اجتهد في الدين وسعى للترقي في مراتب الإيمان والتزكية :

منزلة الإخلاص منزلة نُصَّ عليها في القرآن الكريم في أكثر من آية، ونُصَّ عليها في السنة النبوية، بل هي جوهر الدين، ومآل العبادة وخلاصة دين الإسلام، وهي المقصد الغائي للعقيدة الإسلامية ولما تفرع عنها من أعمال، كل ذلك يجمعه اسم الإخلاص، فهي مرتبة ودرجة يسعى المؤمن لاكتسابها، وبيان ذلك أن لها معنيين؛ المعنى الأول: هو ما يتعلق بشهادة أن لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح (1) أن عثمان بن عفان  قال: سمعت رسول الله  يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد إلا حرَّم عليه النار، أي إلا حرم الله عليه النار»، فقال عمر بن الخطاب : «إني لأعلمها إنها كلمة الإخلاص التي ألزم الله بها عبده محمداً عليه الصلاة والسلام، والتي أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب حينما كان يقول له عند الموت قل «لا إله إلا الله»، فكلمة الإخلاص إذن هي شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا هو المعنى الأول والأساس والمشترك بين جميع المسلمين، فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو حائز على كلمة الإخلاص، وبها إن شاء الله يدخل الجنة وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه كما ثبت في حديث صحيح: «يدخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه»، فلا يُخلَّد مسلم في النار بمقتضى شهادته أن لا إله إلا الله، وهذا عامّ مشترَك في كل المسلمين، عصاتهم وصالحيهم، إنما التفاوت يحصل في المعنى الثاني من معاني الإخلاص وهو الذي قصدناه هاهنا بمنزلة الإخلاص، وهي منزلة إنما يُؤتاها من اجتهد في دين الله وحرص على تعبده حرصاً شديداً، يسعى ويسلك، ويجهَد ويعمل، يُخطئ ويتوب، يسرع بالتوبة إلى الله عز وجل، يجدِّد دينه، يجدد إيمانه، يسعى دائما للترقي بمراتب الإيمان وللتزكية والتصفية من الشوائب التي تشوب القلب وتكدِّر صفاء الأعمال، هاهنا يكتسب المؤمن فعلاً منزلة الإخلاص بالمعنى الثاني، وقد أخذ العلماء ذلك من آيات عديدة منها قوله عز وجل في وصف المؤمنين الخُشّع وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (المؤمنون 60)، وهذه من أشدّ الآيات على النفس، هاهنا السير المخلص إلى الله عز وجل، هاهنا الجَهد والعمل على اكتساب منزلة الإخلاص، المسلم الخاشع الخائف -كما في الحديث: «من خاف أدلج»-، الذي يخاف الله حقاً يُؤتي ما يؤتي من عمل، يعمل الأعمال الصالحة وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة، أي أثناء عمله وبُعيد عمله إلى أن يلقى الله عز وجل بعد ذلك وهو يفكر أتُقبِّل منه أم لا، فهو يعمل العمل الصالح: يحج، يعتمر، يزكي، يصدّق، يصوم، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يمتنع عن المحرمات، يتورع، ومع ذلك يبقى قلبه خائفاً وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، أي خائفة مضطربة، غير آمنة من مكر الله عز وجل، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة، ما السبب؟ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، يعني أنه يُدرك يقيناً أنه سيموت، يعمل العمل الصالح، ولكن ليس لديه يقين أنه تقبل منه، اليقين الذي عنده هو أنه سيموت وسيحاسب، الموت يقين كل إنسان وليس كل مسلم، لأن الكافر يوقن أنه سيموت ولا يشك في الموت إلا أحمق، لا يمكن أبداً أن يُنسَب الشك في الموت إلى عاقل، فهذا يقين وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ(الحجر 99)، يقين كل امرئ على وجه الأرض، فهذا أمر يوقن به الإنسان المسلم أيضا، ويوقن أيضا من حيث هو مسلم بالحساب، وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (البقرة 04)، والآخرة تتضمن كل ما يقع فيها من حساب وصراط وميزان وجنة ونار، نسأل الله السلامة والعافية من عذابه وغضبه، ونسأله رضاه عز وجل برحمته،

2 – كل الأعمال خاضعة للميزان يوم القيامة :

إذا كان للمؤمن يقين بالموت، وبالحساب، وليس له يقين بصفاء عمله من كل شوائب الرياء والتسميع وهلم جرا مما يُبطل العمل، فهو حينذاك يعمل العمل وهو خائف من الله عز وجل، يُقدِّم الصالحات، يؤتي الخيرات، وهو غير مطمئن اطمئنان الموقن بأن الله قد تقبل منه، ولكن يَوْجَل – يبقى على حذر من أن لا يُتقبَّل منه- ما دام أنه يوقن بأن هذا العمل من ورائه الحساب.

على المؤمن أن يعمل الخير والصالحات، ولكن وجب أن يعرف بأن ذلك الخير وتلك الصالحات سوف تمرّ في الحساب، وسوف توضع على الميزان الحقّ، موازين القيامة، الميزان القسط، أي العدل الذي لا يظلم، وهنالك يظهر العمل الصافي والعمل المغشوش تماماً كالمسبار (آلة القياس التي يُسبَر بها السائل كاللبن وغيره)، وهو تمثيل من أجل الفهم، لا أقل ولا أكثر، وإلا ففرق شاسع ما بين الأمرين، هل يعرف مستوى المياه من خلال ميزان الحليب الذي يُستعمل؟، هل يعرف أنه مغشوش أم هي تلك النسبة الطبيعية الموجودة في الحليب؟، فالميزان الذي يكون يوم القيامة يسبر الصالحات الصافيات، ويسبُر الصالحات غير الصافيات، ومن هاهنا كان وَجَل الصالحين والمؤمنين الخشع، وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، عارفين أن مرجعهم إلى الله عز وجل يترتب عنه حساب وميزان، ومن هاهنا وجلهم وعدم اطمئنانهم إلى أعمالهم، وهذه من الصفات الحسنة، لأنها فعلا توصل العبد بإذن الله إلى مرتبة الإخلاص أو إلى منزلة الإخلاص.

3 – استكثار الأعمال يقود إلى المن، والمن يحبط الأعمال :

وذلك أن من شروط أن يكون العبد مخلِصاً أن لا يستكثر عمله كما قال الله عز وجل في المدثر وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر(المدثر 06)، لا تعجبك أعمالك الصالحة، تنظر إلى حجك وإلى عمرتك وإلى كثرة صدقتك، وربما طول صلاتك وصيامك، وغير ذلك مما قد يدخل عليك إبليس الملعون منه فيُخرِّب عليك عملك من حيث لا تدري، فتشعر أنك صالح، عملت وعملت وعملت، يكثر عليك شغلك، حينما تعتقد ذلك وترى بعين الاستكثار أعمالك فقد دخلك المنّ، في حين أن ربي عز وجل هو الذي يمنّ عليك يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ اَسْلَمُوا (الحجرات 17)، كانت الأعراب تجيء إلى النبي  ويمنون عليه، يقولون له إننا أسلمنا وفعلنا كذا وكذا، فيذكرون أعمالهم وإسلامهم مَنّاً على رسول الله  وعلى الله عز وجل، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلايمَانِ (الحجرات 17)، الله هو الذي يمن على العبد، لأنه كان يمكن أن يضِل إذ لم يهده الله، ومن لم يهده الله فلا هادي له، فلذلك إذن لا بد من أن يعتقد المؤمن في كل عمل يقدمه أنما القَبول والردّ من الله، وأن نجاة عمله الصالح إنما يكون بعدما يتلقاه الرب عز وجل بالقبول، وهذا أمر الغيب، لا يمكن أن نعلمه في الدنيا، وإنما يُعلم يوم القيامة، فما دام المؤمن في الدنيا فهو إذن على وجل أنه إلى ربه راجع، إنما لا يجوز أن يسيطر الوجل على النفس حتى يهلكها باليأس، المؤمن لا ييأس من رحمة الله، وإنما يجمع بين الوجل والخوف من الله والرجاء في رحمته سبحانه وتعالى، لأن الرجاء يداوي الوجل والخوف، فيحصل التوازن، وهذا هو منطق السير إلى الله عز وجل إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف 87)، المؤمن لا ييأس، ولكن لا ينبغي أن يطمئن اطمئنان غير الخائف، غير الوجل، لأنه إن فعل ذلك استكثر أعماله، وإن استكثرها فقد حصل له المَنّ، والمَنُّ يبطل العمل، لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاذَى (البقرة 264)، يقول: في يوم كذا فعلت كذا وأعْطيتُ لفلان، فهذا يُخرِّب عمل المؤمن ويبطله  لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْاذَى، والأذى منه المادّي والمعنوي، كالذي يستخدم المُتَصَدَّقَ عليه، لأن الفقير يحس  بالذل عندما يكلف وهو مضطر للقيام بأعمال مقابل تلك الصدقة، لأنه ما قبل الصدقة إلا لأنه فقير محتاج، فيعمل تلك الأعمال على مضض، ونفسه حرجة ضيقة تشعر بالأذى، وهذا الأذى يُبطل العمل ويُسقطه من ميزان الله يوم القيامة والعياذ بالله.

4 – الإخلاص كالإيمان :

إذن من معاني الإخلاص أنه كالإيمان يزيد وينقص، يعني أن الإيمان الوجداني الذي يزيد وينقص يشابه الإخلاص، لأن مآلهما واحد في نهاية المطاف وَالَّذِينَ يوتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، فإذا اضطرب حالُه سَمَّع، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من التسميع، وفي صحيح البخاري وغيره عن النبي  «من سمَّع سَمَّع الله به يوم القيامة»، سَمَّع أي سمع أعماله للآخرين، يعمل أعمال البر والصلاح، وهو يقصد أن تُسمَع عنه، وقد بلغني أن بعض اليهود، وهذه من خبر يقين، وهي من المضحكات المبكيات، أنه في كل جمعة مع الأسف يوزع الصدقة على المسلمين، تجد عنده أمام محل تجارته، العشرات وربما المئات من الفقراء المسلمين يوزع عليهم الدراهم، اختار يوم الجمعة وهو عيد المسلمين وليس السبت، لا يمكن أبداً أن يكون عمل هذا اليهودي خالصا لله، إنما يُسمِّع، حتى ينتشر الخبر بين الفقراء وفي الأوساط الاجتماعية بين جميع الطبقات، «من سمّع سمع الله به يوم القيامة»، يفضحه على رؤوس الأشهاد لأنه قد عمل العمل الفلاني من أجل أن يُقال إنه يتصدّق، ومن أجل أن يكسب مصالح في الدنيا هنا قبل الآخرة، أما الآخرة فلا يراعي لها إطلاقاً، فإذا شابَ المسلمَ شيء من ذلك فقد تخلَّق بأخلاق اليهود، «من سمَّع سمع الله به يوم القيامة»، نسأل الله العافية، فإذن المؤمن يعمل بنقض ذلك ونقيضه وهو أنه يوتي ما يوتي وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع، هذا العمل يعمله لمن؟ إذا كان يعمله لله فليعلم أن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور (غافر 19)، لأن الذي تقدم إليه العمل يعلم ما يَقِر في قلب العبد، وهو العليم الخبير، عليم بكل شيء، خبير بما هو واقع وبما سيقع، وعليم بما هو واقع وبما سيقع إلى يوم القيامة، فإذن المؤمن ليس له إلا أن يُصَفِّيَ مع الله عز وجل، وقد سُئل النبي  عن الرجل يقاتل حميّة ويقاتل عصبية ويُقاتِل ليُقال إنه شجاع فأيها في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، وهذا الأمر مناطه القلب، وإلا فكل أعمال البر على هذا الوزان وعلى هذا القياس من الصَّلوات والصالحات وفعل الخيرات وترك المنكرات، وإعلاء كلمة الله عز وجل مقصود بها أساساً الإخلاص لدين الله في أن يكون هو المهيمن على العالمين، الإخلاص في العمل، الإخلاص في العبادة، الإخلاص في القصد والغاية، ومن هاهنا كان الإخلاص بهذا المعنى يزيد وينقص…..

يتبـــــع

————

* منزلة الإخلاص من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي.

(1) (في مسند أحمد ورجاله ثقاة كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد حكما على الحديث)

 

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>