يعتبر التسعير من أهم فروع الحسبة التي تعتبر بدورها أحد أوجه السياسة الشرعية المتبعة في المغرب بيئة الفقه المالكي منذ عهود، ففي عهد السلطان مولاي إسماعيل أمر بتكليف محتسب يقوم بالإشراف على أهم صناعة وهي صناعة البارود في الدولة الشريفة، مما يوحي بأهمية هذه الخطة ـ الحسبة ـ ومكانتها عند أهل الرأي في المغرب.
وأبادر إلى القول بأنني في هذه العجالة لا يتأتى لي الإلمام بالموضوع وبكل مكوناته وحيثياته، إذ هو موضوع فقهي ذو شعب متداخلة، ولكن بالرغم من ذلك سوف أعرج على أهم مسائلة إن يسر الله تعالى :
مفهوم التسعير :
السعر لغة هو القدر الذي يقوم عليه الثمن ويجمع على أسعار، والتسعير : تقدير التسعير، أي أن يجعل للسلعة سعرا معلوما تنتهي إليه. وأسعر القوم اتفقوا على سعر، وهناك عدة معان لهذا المصطلح لا يتسع المجال لذكرها.
وأما في الاصطلاح فقد عرف ابن عرفة ـ إمام الحدود ـ المالكي التسعير بقوله : «حد التسعير تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرا للمبيع المعلوم بدرهم معلوم».
حكم التسعير عند السادة المالكية:
التسعير قد يعمد إليه المتعاملون اختيارا دون تدخل جهة معينة تفرضه عليهم، والتسعير بهذه الصورة لا يطرح ـ في الجملة ـ أي تعارض أو نقاش كبيرين. لكن التسعير الإلزامي هو الذي يتجه إليه النقاش وتتعارض فيه أقوال الفقهاء سواء داخل المذهب المالكي أو خارجه. وحيث إن المقام لا يتسع لعرض أقوال أئمة العلم والمذاهب بشكل تفصيلي ومناقشتها فإنني سأكتفي بذكر حكم التسعير مستعرضا بعض الأقوال المعتبرة داخل المذهب المالكي دون غيره من المذاهب.
ولحصر الموضوع أقول : لقد رويت عن مالك في مسألة التسعير روايتان إحداهما بالجواز وثانيتهما بالمنع.
فأما الرواية التي تقول بالمنع فقد تناقلها الفقهاء والأئمة الكبار داخل المذهب. يقول أبو الوليد الباجي في معرض بيان معنى التسعير: إذا كان التسعير هو أن يحد لأهل السوق سعرا ليبيعوا عليه فلا يتجاوزونه فهذا منعه مالك وكبار أصحابه كابن القاسم وغيره، وقال ابن القيم إن هذا هو المشهور عن مالك.
وقد ألف ابن عمر( يحيى بن عمر الكناني) كتابا سماه (أحكام السوق) ثم ذكر نقولا عن ابن القاسم وكبار أصحابه تفيد عدم جواز التسعير ومثل هذا جرى عليه ابن جزي في القوانين الفقهية.
أما الرواية الثانية عن الإمام أيضا فإنها تفيد جواز التسعير وقد نقلها الإمام أشهب وذكر ذلك الباجي في شرح الموطأ عن العتبية.
وهذه الرواية التي تجيز التسعير اشترط أصحابها شروطا منها :
< مراعاة رأس مال البائعين وربحهم بالمعروف، وقد نص ابن حبيب على الكيفية التي يتم من خلالها الاتفاق على هذه الصورة بين أهل السلعة أو نائبهم وبين الإمام. وذكر أنه لا يحل التسعير إلا عن تراض.
< يقتصر في أمر التسعير على أهل السوق دون غيرهم، قال ابن عرفة : الجالب لا يسعر عليه، وقال المالقي: لا احتساب على جالب الطعام ولا لمن يبيع بغير دكان ولا حانوت يعرض للخاصة والعامة ولا على الفواكه والخضر.
التسعير وواقع الناس :
تمسك من ذهب إلى عدم جواز التسعير بما ورد في بعض الأحاديث التي تفيد أن التسعير حرام أو ظلم وما شابه ذلك، من تلك الأحاديث ما روي عن علي قال: قيل يا رسول الله : قوم لنا السعر، قال: «إن غلاء السعر ورخصه بيد الله، أريد أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة ظلمتها إياه».
وإذا نوقشت تلك الأحاديث المانعة (في ظاهرها) من التسعير يتبين أنها لا تتعارض مع القول بالتسعير وإلزام الناس به إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بل إن واقع الناس اليوم يجعل الإنسان يبادر إلى القول بوجوب تدخل جهاز المراقبة وتحديد السعر دون أن يكون في ذلك ضرر على طائفة معينة، ورحم الله من قال : (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)، فهل يجوز أن يترك فرد أو أفراد يبيعون ويشترون دون نكير عليهم حتى ولو تضرر الجميع من جشعهم ولهيب أسعارهم؟ كلا إن مصلحة المجتمع ينبغي أن تراعى كما تراعى كذلك مصلحة الفرد، دون أن يتضرر هذا الفريق أو ذاك، والمدار في هذا كله على قصد الإضرار، فإن قصد الضرر فيجب على مرتكبه رفعه. قال ابن المناصف : (فإذا تواطأ الناس وترافعوا على سعر واحد من غير قصد إضرار الكافة لم يعرض لهم ولم يجبروا على غيره وإن تضرر الكافة بشيء قصده بهم أهل السوق مثل أن يتمالؤوا أو يتظاهروا على فعل يضطرهم إلى الزيادة من غير سبب أوجبه…
إلى أن قال : فإذا ضاقت أحوال الناس من ذلك فمعالجة دفع هذا الضرر عن المسلمين واجب، ومعاناة مثل هذا تكون بالبحث، وكل من عظمت إذايته وجب إخراجه من السوق وإراحة المسلمين من شره) على أن مسألة التسعير إنما يتولاها الإمام أو من ينوب عنه وذلك مراعاة للمصلحة العامة حسب الظروف والأحوال.
وللموضوع بقية.