إلى أن نلتقـي


عالم فقدناه

انتقل إلى رحمة الله الشهر الماضي الأستاذ الدكتور أحمد حدادي ابن حاضرة فكيك ورئيس المجلس العلمي بها والأستاذ السابق بكلية الآداب بجامعة محمد الأول بوجدة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، ورزق ذويه وإخوانه ومحبيه الصبر والسلوان.

كان رحمه الله تعالى عالما متبحرا كريما جوادا، لا تفارقه البسمة، ولا تبتعد عنه النكتة، يألفه من يراه، ويألفه من يلقاه، ويحبه من اصطحبه، حتى وإن لم يكن يعرفه من قبل.

لم تجمعني به إلا لقاءات محدودة وقليلة جدا، لكنها مع تلك الندرة، كشفت لي عن شخصية فذة عصامية، تروم دائما الجِدّية في العلم والمنهجية في البحث.

لعل من بواكير ما يدل على ذلك، ويعرفه كل من يعرف اسم الفقيد رحمه الله تعالى، اهتمامه برحلة ابن رشيد السبتي المشهورة، والمعروفة بعنوان: “ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة”، حيث قدّم عنها دراسة علمية قيمة، رجع فيها إلى أزيد من سبعمائة مصدر و مرجع، وقد طبع الكتاب في جزأين ضمن مطبوعات وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، ثم توج ذلك بتحقيق الجزء السابع من الرحلة صدر قبل سنتين من مطبعة الجسور بوجدة. بالإضافة إلى العديد من المؤلفات والدراسات والمقالات والمحاضرات التي تنبئ كلها عن رزانة البحث العلمي و أصالته التي كان يتسم بها الفقيد رحمه الله تعالى.

إن سيرته رحمه الله تعالى تنبئ بجدارة عن أن العالم الحق لا يمكن أن يكون إلا موسوعيا بدءا من تكوينه وانتهاء بسيرته العلمية العامة، تلك الموسوعية التي تبني الشخص العالم السوي المُتَّزِن الوَسَطِي، ومما يترجم ذلك ثلاثة جوانب :

- أولها : أن القيم الروحية الإسلامية هي مرتكز الثقافة المغربية وأساسها المتين، وقوام حصنها الحامي لها من الانزلاق والاندثار ومن الانسلاخ من مقومات الحضارة ومن التنكر للهوية، وهذا ماكان يتجلى في الفقيد رحمه الله، فقد كانت تتجلى فيه قيم الثقافة المغربية الأصيلة المتشبعة بقيم الحضارة الإسلامية المعبرة عن هويتها وأصالتها، والتي لا تتنكر للواقع الحديث بل تأخذه بحسبانها وتستشرف في الوقت ذاته آفاقا واعدة في التقدم والبناء الحضاري القويم.

- ثانيها : أن العلوم العربية خادمة للعلوم الشرعية، وأن التكامل بين العلوم العربية والعلوم الشرعية أمر عضوي، فعالم العربية مؤهل للخوض في علوم الشريعة، وعالم الشريعة لايمكن أن يتكلم فيما هو فيه إلا بعد التمكن من علوم العربية، وهذا ماكان من سمات الفقيد رحمه الله تعالى، فلقد أهَّلته علوم العربية لكي يكون عالما في علوم الدين، باحثا فيها ومحاضرا.

- ثالثها : أن اللسان الأمازيغي – كغيره من ألسنة الشعوب المسلمة غير العربية – خادم للسان العربي كما العربية خادمة له؛فبفضل العربية حفظ اللسان الأمازيغي على ألسنة المغاربة، -على عكس مانجده في العصر الحديث حيث قهرت اللغات الغالبة اللغات المغلوبة ومحت الكثير منها من الوجود تماما – و لذلك كان العديد من المغاربة – ممن يتكلمون هذا اللسان- متبحرين في العربية متقنين لها مؤلفين فيها، وأيضاع لماء في علوم الشريعة، دون أن يمنعهم ذلك أو ينتقص من قدرهم استعمالا للسان الأمازيغي في الأوساط الاجتماعية داخل أسرهم وفي أوساط مجتمعهم، بل إن استعمال هذا اللسان قد مكَّنهم من ضبط قواعد العربية وتسطيرها بهذا اللسان تسهيلا لغير الناطقين بالعربية على تمثل قواعد لغةالقرآن الكريم والنطق بها واستعمالها بشكل سليم. وهذا ماكان عليه الفقيد رحمه الله تعالى، الذي بين ذلك في العديد من محاضراته، بالإضافة إلى عدد من الكتابات التي تبين وجه التفاعل بين اللسانين تأثرا وتأثيرا، و من بين ذلك بحثه الموسوم ب ” أصول العربية الفصيحة في تمازيغت فجيج”.

رحم الله الفقيد رحمة واسعة، وجعل الجنة مثواه، وألحقنا به مسلمين مومنين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>