أما بعد: أيها المؤمنون: إنَّ الحجَّ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادة جليلةٌ، فيها تحقيقٌ للعبودية وكمالٌ في الذّلِّ والخضوع والانكسار بين يدي ربنا عزَّ وجلَّ، فالحاجُّ يخرج من ملاذ الدنيا وشهواتها ومحابِّها مهاجراً إلى ربِّه سبحانه، تاركاً مالَه وأهلَه وعشيرَتَه، متغرِّباً عن بيته ووطنه، متجرِّداً من ثيابه المعتادة وزينته لابساً إزاراً ورداء، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربِّه، تاركاً الطيبَ والنساءَ، متنقِّلاً بين المشاعر بقلبٍ خاشع وعين دامعة ولسان ذاكر، راجياً رحمة ربِّه، خائفاً من عذابه، وشعارُه في ذلك كلِّه (لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك) أي: إنَّنِي خاضعٌ لك يا ربِّ مستجيبٌ لندائك منقادٌ لحُكمك، مستسلم وأنا في كامل وعيي وتمام عقلي لأمرك.
والتلبيةُ شعارُ الحجِّ، فالمسلمُ يبدأ أعمالَ الحجِّ بالتلبية ويَمضي إلى مكة ملبِّياً إلى أن يصلَ إلى البيت ويشرع في الطواف، ثم هو يُلبِّي كلَّما انتقل من ركن إلى ركن، ومن منسك إلى آخر، فإذا سار إلى عرفة لَبَّى، وإذا سار إلى المزدلفة لَبَّى، وإذا سار إلى منى لَبَّى حتى يرمي جمرة العقبة فيقطع التلبية، فالتلبيةُ شعارُ الحجِّ والتنقل في أعمال المناسك. وكم لهذا من آثار مباركة على المسلم في تزكية نفسه وإصلاحها ومعالجة تقصيرها في أوامر الله ونواهيه والقيام بحقوقه سبحانه جل جلاله.
أليس الواجب على المسلم أن يكون دائماً ملبِّياً نداء الله، مستجيباً لأمره، منقاداً لحُكمه، أليس الواجب على المسلم أن يكون شأنه في كلِّ طاعة أن يُلبِّي نداء الله وأن يستجيب لأمره.
فقد أمر الله عبادَه بالصلاة والزكاة والصيام والصدق والوفاء والأمانة والبرِّ والإحسان، ونهاهم عن الزنا والقتل وشرب الخمر والكذب والغشِّ والخيانة ، وهلم جرا، فما شأن المسلم مع هذه الأوامر والنواهي، هل هو مُلبٍّ أمر الله قائم بطاعته سبحانه، أم أنَّه معرض عن ذلك بالفسق والعصيان بالكل أو الجزء؟؟.
إنَّ حقيقةَ الإسلام ــ عباد الله ــ هي الاستسلامُ لله بالإيمان الصادق والانقياد التام له بالطاعة والخضوع، والبراءة من الشرك وأهله، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (1).
وقوله: ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ أي: الإسلام بمعنى أسلموا لله تعالى، وذلك بامتثال شرعه وطاعة أمره، وقوله كَافَّةً أي: جميعاً، قال مجاهد: «أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر » (2).
فهو سبحانه أمر عباده بجميع شُعَب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة ما استطاعوا منها، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(3)، وفي الحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». والآيات في الأمر بالاستسلام لله وتلبية ندائه وامتثال أوامره والتزام طاعته كثيرة جدًّا.
فيا مَن أمرك اللهُ بالحجِّ فلبَّيتَ النداءَ وجئتَ ميمماً بيته العتيق ترجو رحمتَه وتخاف عقابه، كيف هي حالك مع الله؟ وما حظُّك مع شريعته؟، كيف شأنك مع الصلاة التي هي عماد الدِّين وأعظم أركانه بعد الشهادَتَين؟، كيف هو شأنك مع الصيام؟، كيف حالك مع الزكاة؟، كيف هي حالك في البُعد عن النواهي وترك المحرمات؟، إن كنتَ ممتثلاً فاحمد الله واسأله المزيدَ والثبات على الحق والدين، وإن كنتَ مفرِّطاً مضيِّعاً فحاسب نفسك قبل أن تُحاسَب في يوم الوعيد، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إنَّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيراً فليحمد الله عزوجل، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومن إلاَّ نفسه» (4).
إنَّ الناسَ مع الأوامر والنواهي ينقسمون إلى أحوال: منهم من يستجيب إلى فعل الطاعات ويَكفٌّ عن ارتكاب المعاصي، وهذا أكملُ أحوال أهل الدِّين، وأفضل صفات المؤمنين المتَّقين، ومنهم مَن يمتنع عن فعل الطاعات ويُقدِم على ارتكاب المعاصي، وهذا أخبثُ أحوال المكلَّفين وهو يستحقُّ عذاب الله تعالى عن عدم فعل ما أُمر به من طاعته وعذاب المجترئ على ما أقدَم عليه من معاصيه، ومنهم مَن يستجيب إلى فعل الطاعات ويُقدِم على ارتكاب المعاصي، فهذا يستحقُّ عذاب المجترئ؛ لأنَّه تورَّط بغلبة الشهوة على الإقدام على المعصية، ومنهم مَن يمتنع عن فعل الطاعات ويَكفُّ عن ارتكاب المعاصي، فهذا يستحقُّ عذاب الله عن دينه؟
والواجب على المسلم أن يكون ناصحاً لنفسه محافظاً على طاعة ربِّه ممتثلاً أمره مبتعداً عن نهيه صابراً محتسباً.
قال أحدُ السَّلف: «إنَّا نظرنا فوجدنا الصبرَ على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذابه»، وقال آخر: «اصبروا عباد الله على عمل لا غنى لكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه». وكم يحتمي الإنسان في هذه الحياة الدنيا من أمور يخشى أن تضرَّ بدنَه أو تؤثّرَ على صحَّته، ومع ذلك لا يحتمي من أمور تفضي به إلى عقاب الله وتؤول به إلى عذابه.
قال ابن شبرمة رحمه الله تعالى: «عجبتُ لِمَن يحتمي من الطيِّبات مخافة الداء كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار».
وقال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: «عجبتُ ممن يحتمي من الأطعمة لمضرَّاتها كيف لا يحتمي من الذنوب لمعرَّتها)) (5).
وتأمَّل أخي الملبِّي الموفَّق بإذن الله تعالى جميعَ ما سبق، وتأمَّل معه وصيَّة النَّبيِّ لمعاشر الحجاج والمعتمرين الملبِّين، ففي الترمذي وغيره عن أبي أمامة قال : سمعتُ رسول الله يخطب في حجَّة الوداع، فقال: «اتَّقوا الله ربَّكم، وصَلُّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدُّوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنَّة ربِّكم»، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، ورواه الحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي(6).وهاهنا تتساءل أيها المسلم, مع نفسك وتقول: كيف أنا في حياتي كلها مع تلبية نداء الله؟ ناداك الله للصلاة وناداك للصيام وناداك للزكاة وناداك لفعل الطاعات ونهاك جل وعلا عن المحرمات والآثام فهل استجبت لهذه النداءات بالطاعة والخضوع والتلبية؟ أم أنك مقصر مضيع مفرط لست ملبياً لنداء الله ولا مستجيباً لداعي الله تعالى ولا خاضعا لأوامره ونواهيه جل وعلا؟ إنها ــ أخي المسلم ــ فرصة عظيمة سانحة ومناسبة كريمة ينبغي على كل مسلم أن يستفيد منها فائدة عظمى في حياته ليتحوّل إلى عبد مستجيب ومؤمن طائع ومُلَبِّ لنداء الله خاضع لأمره جل وعلا منكسر بين يديه متزود في هذه الحياة بزاد التقوى وزاد الطاعة وزاد الانقياد والخضوع والاستسلام لله الواحد جل جلاله.
عباد الله : إنها والله – لفرصةٌ عظيمة ومناسبةٌ كبيرة لأن نحاسب فيها أنفسنا قبل أن نحاسب, نحاسب أنفسنا ما دمنا في هذه الحياة قبل أن يحاسبنا الله جل وعلا حينما نلقاه ونقف بين يديه عز وجل، يا من دعاك الله للحج فقلت: لبيك اللهم لبيك، لقد دعاك الله لبقية الأركان والشعائر الأخرى بكل أنواعها، فما أنت قائل وبما أنت مجيب؟ إن الواجب علينا – عباد الله – أن تكون حياتنا كلها تلبيةً لنداء الله واستجابةً لداعي الله وخضوعا لأمره سبحانه مستسلمين منقادين محققين للطاعة ممتثلين للعبادة لسنا خارجين عن طاعة الله وعن امتثال أوامره جل وعلا.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلنا وإيَّاكم من الملبِّين لندائه سبحانه حقًّا وصدقاً، وأن يُلهمنا رشدنا ويطهر قلوبنا، وأن يوفِّقنا لطاعته إنَّه سميع مجيب.
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون : الحج شحنة روحية إيمانية وعاطفية ووجدانية للإنسان المسلم، يقصد مكة محرماً، متجرداً من ثيابه العادية، ثياب الصنعة والتزويق والجمال، ويلبس ثياب الفطرة السليمة الطبيعية، بعيداً عن المظاهر والتكلُّف وصنعة الخياط، وهي أشبه ما يكون باللباس الأخير الذي يرتديه الإنسان وهو يغادر الحياة الدنيا الفانية لما يموت متوجهاً إلى الحياة الآخرة الباقية… إن مشهد الحاج وهو يرتدي ملابس الإحرام مردِّداً النشيد العلوي الخالد بصدق وإخلاص: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك). إنَّ هذا المشهد تتجلى فيه حقيقة العبودية الخالصة لله تعالى، وكمالُ المخلوق لا يكمن ولا يتجلى إلا في تحقيق العبودية لربه، وكلما ازداد العبد تحققا منها وتخلقا بها، ازداد كماله وارتقت منزلته، وعلت درجته وأفضليته عند الله تعالى.
في هذا المشهد ــ عباد الله ــ تذلُّلٌ لله، وخضوع إليه، وانكسار بين يديه، وما نداء التلبية إلا إعلان للهجرة إلى الله تعالى، وفرار إليه بالكلية، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ف: توبوا إلى الله جميعا أيها المومنون لعلكم تفلحون
اللهم باسمك التواب تب عنا وباسمك الرحمان الرحيم ارحمنا، وباسمك الغفور اغفر لنا، ولوالدينا ولمن علمنا ولمن له الحق علينا ولجميع المؤمنين والمؤمنات ….
……………………………
(1) سورة البقرة، الآية: 208.
(2) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/361).
(3) سورة التغابن، الآية: 16.
(4) صحيح مسلم (2577).
(5) انظر فيما سبق أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص:103 ـ 104).
(6) سنن الترمذي (616)، والمستدرك (1/9).
———–
* خطيب مسجد سعد بن أبي وقاص بفاس