شهـر رمـضـان الـمدرسة الـربـانـيـة


د.عبد الرحمن بوعلي

فرصة للتعبير عن وحدانية الله تعالى، بأسلوب حضاري لم يعرف الزمان البشري مثله خارج المنهج الرباني، فرصة للبرهنة على حقيقة الإيمان بالغيب .

صيام في خفاء وجهار،  صيام من وراء الأنظار، لا حول لأحد في هذا الوجود ولا قوة في مراقبة أحوال الصائم ظاهرا وباطنا فيما إذا كان على الصيام أم هو لاغٍ له لمجرد تغيير في نيته وقصده.

« نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر « . تلك السرائر التي يأتي الصيام لإعادة بنائها وتهييئها وشحذها في علاقتها بخالقها ’ تلك السرائر التي هي المعيار الشرعي الوحيد  في اعتبار كل آدمي « إن أكرمكم عند الله أتقاكم « .

أي تكريم لهذا المؤمن الذي اعتنى الله عز وجل بظاهره وباطنه ؟ أي تقدير لهذا المؤمن الذي جعل الله عز وجل شؤونه قرآنا يتلى ؟ أي تعظيم لمن  جعل الله تعالى ليله ونهاره عبادة مالها من مثيل ؟ أي تقدير لهذا العبد الضعيف بين مخلوقات الأرض يتولى الله عز وجل تسطير منهج حياته ؟ ويخضع حركاته وسكناته لمعايير ربانية .

صيام ليس في غيره من العبادات السماوية ما فيه من اخلاص دفين لا يعلم درجته ولا عمقه ولا صفاءه إلا الواهب له عز وجل، ومن هنا تظهر عظمة الصيام وجلاله.

إنه تصحيح للعقيدة وتصفية لها من شوائب علقت بها عبر مسار ومدار السنة، إنه تجديد للعهد «ألست بربكم قالوا: بلى»

إنه إيمان بالغيب الذي انفردت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم ’ الغيب الذي هو الأمل الوحيد الذي علق به كل مومن تتشوف روحه الإيمانية إلى ذلك الجزاء المكتوم والموعود «تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا».

«… للصائم فرحتان يفرحهما فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه «.

عبادة كلها خرق واختراق للعوائد البشرية في الزمان والمكان ؟

عبادة ذات سلطة تقديرية وتنفيذية تكتسح كل العلائق البشرية، وتصرفات الإنسان بهدف إعادة ترتيب الأوراق، وتقديم نقد بناء لكل الأعراف المتجذرة في سلوكات العباد.

عبادة سلوكية تمخر جسم المجتمع المدني فتعري عن الأمراض التي تهدم القيم الروحية التي غرسها الدين السمح منذ أجيال مضت، فتقيم مقامها سننا محمدية كادت تعصف بها البدع.

« بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء …».

عبادة تدفع الكثيرين إلى التفكير في عقد التصالح مع الله ’ فتنعقد آصرة التوبة النصوح ويجب الاسلام ماقبله فتندمل الجراح وتستكين الروح إلى بارئها .

«قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إن الله هو الغفور الرحيم».

عبادة تدفع الكثيرين إلى التصالح مع كلام الله فيعانقون المصحف، ويقفون خلف الإمام مستمعين، ومتدبرين هذا القرآن آناء الليل وأطراف النهار، بعد هجر طويل.

عبادة تدفع الكثيرين إلى تجديد العهد مع بيوت الله، فيعانقون الصفوف الأولى، وتعانقهم الملائكة وهم ساجدون راكعون.

«لمثل هذا فليعمل العاملون».

عبادة مهما وصفتها فلن تبلغ وصف الباري لها: «والصيام جنة».

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>