ذة. رجاء عبيد
ها قد انصرم من كتاب الزمن أحد عشر شهرا طال فيها تيه النفس في مفاوز الغفلات، وعانق القلب حب الدنيا عناق اللام للألف؛ فضل برقاده في مهاوي الفتن، وتكدر بأوحال المعاصي مفتتنا بدفينة الفخ؛ ناسيا خنق الشرك، ولاقى في قبر الصدر الحرج لغوبا، ولو تفكر في يوم عبوس لما حام حول جيف الهوى وربض.
وأظلنا شهر أبرك نتوسم ان نتلافى ما فرطنا فيه في سائر الشهور، ونصلح ما أفسدناه من الأمور، ويتأوه المتردي فيه فتتصاعد صعداء أنفاس الأنين إلى عنان السماء، ليبصر القلب ببركته نور الإيمان، فإن يعقوب كان له…» أحد عشر ولدا ذكورا، وبين يديه حاضرين ينظر إليهم ويراهم ويطلع على أحوالهم وما يبدو من أفعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بصره بقميص يوسف بصيرا، وصار بصره منيرا، وصار قويا بعد الضعف بصيرا بعد العمى، فكذلك المذنب العاصي إذا شم روائح رمضان»
شهر المنيبين ضيف ينزل بقلوبنا فلا يؤمن من لا يكرم ضيفه، بتخليتها من الشهوات وتحليتها بالقربات، فسرائر القلوب في مغارس الافعال، والتخلية والتحلية رحلة الى مرضاة الله تطوى فيها المسافة بين القلب وبين النفس على رواحل الصدق ليصل العبد إلى النجاة، لا يمسه نصب ولا وصب لانها رحلة قرب فهذا موسى لما سافر «الى الخضر وجد في طريقه مس الجوع والنصب فقال لفتاه «آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا»، فإنه سفر إلى المخلوق، ولما واعده ربه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها لم يجد مس الجوع و النصب، لانه سفر الى ربه تعالى، وهكذا سفر القلب وسيره الى ربه، لا يجد فيه من الشقاء والنصب ما يجده من سفره الى بعض المخلوقين»
رحلة القلب في رمضان يلزمها حقائب لجمع الزاد والعتاد، حقائب وسمتها بسمة المتوسمين المتأملين في سير الصالحين المعتبرين بعظاتهم، فماذا حمل المتوسمون في حقائبهم؟
اغتنام الانفاس نجاة
اغتنام الاوقات عتاد نافع، واضاعتها « أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها»، فلما علم المتوسمون قيمة الوقت جعلوا أنفاسهم مطية النجاة في رمضان بالذكر والتسبيح، يلهج بهما اللسان والقلب، فما انشغلوا عن الجوهر بفاني العرض.لأن «الله تعالى جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته فسبق اقوام ففازوا وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه البطالون»
نزع غطاء الغفلة
غلفت البصيرة بأغطية البعد، فتعددت مسميات أغطية الجوارح، فغطي القلب بالأكنة، وغطيت الأذن بالوقر وغطيت العين بالحجاب،أغطية وارت لذة الوصل، وحلاوة الطاعة، فلما أعرض أهل الغفلة عن الذكر مصرحين بقلة الاكتراث، وبالانتصاب للجفاء حال وصول التدبر الى قلبهم وسمعهم وبصرهم، وصرحوا بحالهم في قوله تعالى:وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر وبيننا وبينك حجاب.
ولنزع الحجب خاطب الصائم المتوسم جوارحه عونا وجماما للقوة فقال « للسانه : إنك اليوم صائم من الكذب والنميمة وقول الزور والباطل والغيبة، ولعينيه: إنكما صائمتان عن النظر إالى ما لا يحل لكما، وللأذنين: إنكما اليوم صائمتان عن الاستماع الى ما يكره ربكما، ولليدين إنكما اليوم صائمتان من البطش فيما حرم عليكما من الغش في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وللبطن إنك صائمة عن المطعم فانظري على ماذا تفطرين؟ وتجنبي المطعم الخبيث الذي تدعين إليه فإن الله طيب لا يقبل الا الطيب، وللقدمين: إنكما اليوم صائمتان من السعي إلى ما يكتب عليكما وزره ويبقى قبلكما تباعته وإثمه».
همة الجوع
الجوع ملاك السلامة في باب الأديان والأبدان، وذلك من حكم الصيام التي تصيدها المتوسمون فعلموا ان المعدة إذا امتلأت رقدت الأعضاء عن الطاعة، وقعدت الجوارح عن العبادة، فما تجاوزوا الثلث مسترشدين بوصية خير الخلق :»ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس».
همة الجوع أوقفت خداما بالأسحار، فحمل ريحها أنينهم واستغفارهم على بساط «هل من سائل فأعطيه أو مستغفر فأغفر له».
تلكم حقائب الموتسمين ستظل مفتوحة، كلما هبت نسائم الاعتبار، لتسقي القلب بغيث الوعظ المنسكب من غمام الوعد والوعيد، فتنبت الخشية والرهبة وتورق الطاعة والمحبة. فأهلا بخير الشهور نجمع فيه خير الزاد للعبور.