من مظاهر بلاغة القرآن الكريم تعدد التأويلات الدلالية للفظ الواحد


تقديم :
يمثل القرآن الكريم دستور الحياة المتجدد، فهو منبع غني وعين فياضة، ينهل من معينه الصافي كل ناهل، فيرى فيه البليغ أفانين القول وأصناف البيان، ويستخلص منه علماء التفسير الجواهر والدرر، ويجد فيه الطبيب حاجته ويستخرج منه عالم النفس أدواء القلوب ودواء النفوس.
وإذا تأملنا في النص القرآني نجده يزخر بالعديد من الظواهر اللغوية والبلاغية، من ذلك أن كثيرا من كلماته تحمل أكثر من معنى. وتقبل تأويلات دلالية متعددة، وهذه الظاهرة اللغوية القرآنية تجعله ذا قدرة إنتاجية تمكنه من التعبير عن معان كثيرة بأقل العبارات، فيبتعد عن التطويل والتفصيل، كما تمنحه ميزة التجدد ومسايرة العصور، فلو فهم من مفرداته معان محددة قطعية الدلالة لجمد على حال واحدة، ولزالت عنه خاصية الإعجاز.
وتعدد الدلالة للكلمة الواحدة في القرآن الكريم قد يظهر على مستوى المفردة الواحدة، كما قد يظهر على مستوى التركيب ويمكن توضيح ذلك على نحو ما يأتي :
1 – تعدد التأويلات الدلالية على مستوى المفردة الواحدة:
إن مسألة احتمال النص لأكثر من معنى كانت معلومة للسلف، يتضح ذلك من قول علي بن أبي طالب لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما لما أرسله إلى الخوارج لمجادلتهم فقال له «اذهب إليهم ولا تخاصمهم بالقرآن فإنه ذو وجوه»2.ذلك أن الكثير من آيات القرآن الكريم تحتمل أكثر من معنى، واختلاف المعاني هو ما جعل علماء التفسير يختلفون في معاني المفردات والتراكيب اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، إذ غالبا ما يطلق القرآن الكريم ألفاظا عامة غير محددة ويترك للعقل فسحة يجول فيها بين المعاني المتواردة والمنبثقة من هذا اللفظ العام، من ذلك مثلا لفظ «النعيم» في قوله تعالى ثم لتسألن يومئذ عن النعيم 3 .
فلفظة «النعيم» تحتمل حسب المفسرين أكثر من تأويل دلالي واحد، فالعقل يذهب في لفظ النعيم إلى الصحة والعافية والعقل والأموال والأولاد والأمن والفراغ. وبهذا قال جماعة من السلف، وهناك أيضا من حصر النعيم في صحة الأبدان والأسماع والأبصار4.
ولنتأمل قوله تعالى : لعل الساعة قريب 5 يلمس من لفظة «قريب» معنيان هما : معنى مركزي أولي ثابت خارج سياقها التي تعني قرابة الرحم أو الصلة أو النسب، ومعنى ثانوي داخل سياق التركيب هو القرب الزمني لقيام الساعة.
ولنتأمل قوله تعالى وكان وراءهم ملك 6 فهناك من فهم من معنى كلمة «وراء» بمعنى خلف، وهناك من فهم منها معنى أمام، وهذا التعدد الدلالي يدعمه صاحب البحر المحيط إذ يقول بصدد هذه الكلمة : «وقرأ الجمهور: وراءهم، وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه هنا أمامهم، وكون وراءهم بمعنى أمامهم، قول قتادة وأبي عبيد، وابن السكيت والزجاج، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدْام»7.
وقد يساهم تناوب الصيغ الصرفية بدوره في تعدد التأويلات الدلالية للكلمة الواحدة، فكثيرا ما نجد في القرآن الكريم اسم الفاعل يقوم مقام اسم المفعول أو العكس8، ومن ذلك قوله تعالى لا عاصم اليوم من امر الله 9، لما وقف المفسرون واللغويون على هذه الآية اختلفوا في معنى «عاصم» هل هي بمعناها الحقيقي أم أنها نابت عن اسم المفعول «معصوم»، فإذا كانت بمعناها الأصلي فالمعنى هو لا أحد يعصمك اليوم من أمر الله10، وإذا كانت بمعنى اسم المفعول فالمعنى «لا أحد معصوم من أمر الله» : ومن ذلك قوله تعالى لا تسمع فيها لاغية 11 فالصيغة الصرفية «لاغية» تحمل في طياتها أكثر من معنى، فقد تكون بمعنى المصدر : اللغو، وفي هذه الحالة تؤدي الصفة وظيفة المصدر، أي تقوم مقامه، وقد يكون المعنى المستفاد من «لاغية» معنى «الكذب والبهتان» وقد ذكر القرطبي12 دلالات أخرى لهذه الكلمة منها المعصية والشتم…الخ.
2 – تعدد التأويلات الدلالية على مستوى التركيب:
إن انفتاح الدلالة وتعددها على مستوى التركيب في القرآن الكريم واسع المجال ومن ذلك تباين الأقوال على مرجع الضمير، وهذه الظاهرة كثيرة في القرآن الكريم وتوخيا للاختصار نكتفي بمثالين :
المثال الأول:
لنتأمل قوله تعالى : فأنساه الشيطان ذكر ربه 13 : إن الضمير في هذه الآية يحتمل تأويلات دلالية مختلفة : فالضمير يمكن أن يعود على يوسف ، فيكون المعنى : أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، ويحتمل أن يعود الضمير على الفتى، فيكون المعنى : أنسى الشيطان الفتى ذكر ربه فلبث يوسف في السجن هذه المدة14.
المثال الثاني:
لنتأمل قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 15
يحتمل الضمير في «إنها» أكثر من قراءة دلالية، حيث اختلف المفسرون في مرجع هذا الضمير، فقيل إنه عائد إلى الصلاة، والمعنى : إن الصلاة تصعب على النفوس، ولعل القاعدة النحوية التي اعتمد عليها المفسرون16 في هذا التقدير، عود الضمير على أقرب مذكور، أو ما يسمى في اللسانيات بالربط الأدنى17، وقيل إن الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذ من «استعينوا»، وقيل إن الضمير راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون 18 ورغم هذه الاحتمالات التي سببها الضمير في هذا المثال والأمثلة قبله فإنه يحظى بأهمية كبرى، إذ شكل وسيلة من وسائل الربط بين الجمل والعبارات مما أسهم في انسجام النص القرآني وتماسك أجزائه، وهو ما يجعل النص القرآني يشكل وحدة دلالية متكاملة.
خاتمة :
إن تعدد معاني آيات الذكر الحكيم وتعدد دلالة كلماته عامل مهم في يسر هذا الدين على البشر، ومطواعية ألفاظه وتراكيبه تمنحه التجدد في كل مكان وزمان، وهو بهذه الميزة التي تثبت التجدد والحيوية في معانيه ودلالاته يبقى مفتوحا لاستخراج واستخلاص لآلئه ودرره التي لا تنتهي ولا تنفذ، ويبقى على مر العصور نبعا فياضا ينهل منه طلاب العلم والمعرفة، فلا هم يرتوون، ولا هو ينضب.
.د. محمد الغريسي1
————
1 – الدكتور محمد الغريسي أستاذ باحث في اللسانيات بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية المغرب.
2 – الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار التفسير اللغوي للقرآن ص597.
3 – سورة التكاثر آية 08.
4 – ينظر تفسير الطبري ج30، ص: 285-289.
5 – سورة الشورى آية 17.
6 – سورة الكهف آية 79.
7 – البحر المحيط لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دراسة وتحقيق وتعليق عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب بيروت لبنان ط1ج6، ص: 145.
8 – قال أحمد بن فارس في باب التعويض : من سنن العرب التعويض، وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة، ومن ذلك إقامة الفاعل مقام المصدر وإقامة المفعول مقام المصدر ابن فارس أبو الحسين أحمد «الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها» ص394-395.
9 – هود آية 43.
10 – ينظر البحر المحيط ج5، ص227 وانظر ابن منظور مادة «عصم».
11 – الغاشية آية 11.
12 – القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ج20ص23.
13 – سورة يوسف آية 42.
14 – أنظر للتفاصيل حول دلالة هذا الضمير : الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» ج12، ص: 279.
15 – سورة البقرة آية 45.
16 – الطاهر بن عاشور المرجع السابق، ص: 463.
17 – للتفاصيل حول مرجع الضمير أنظر الدكتور محمد الغريسي «اللسانيات العربية والإضمار : دراسة تركيبية دلالية»، منشورات دار عالم الكتب الحديث الأردن طبعة 2014 الباب الثاني منه.
18 – البقرة آية : 40.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>