السياق والأهداف والمحاور:
بعد التوسع الكبير في الاهتمام بمقاصد الشريعة وتزايدِ المناداة بإعمالها وتفعيلها في مختلف القضايا المعاصرة الفقهية والفكرية والتطبيقية، أصبح من اللازم مواكبة هذا التوسع بمزيد من التأصيل العلمي والترشيد المنهجي والنقد الموضوعي، توخيا لأفضل استفادة ممكنة من مقاصد الشريعة، ومن تراثنا المقاصدي، وصولا إلى أهدى المناهج في فهم الشريعة الإسلامية وتنزيلها.
وسعيا لخدمة هذا الهدف الجليل، نظمت في الفترة الممتدة من 28 إلى 30 مايو 2014 بفندق بارسيلو فاس المدينة دورة علمية في مقاصد الشريعة في موضوع :
« إعمال المقاصد بين التهيب والتسيب» من قبل ماستر مقاصد الشريعة عند مالكية الغرب الإسلامي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس ـ فاس، ومركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن ومركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط). وقد تناولت بحوث الدورة وتعقيباتُها ومناقشاتُها مختلفَ الاتجاهات والمواقف في النظر إلى مقاصد الشريعة والتعاملِ معها وإعمالِها، قديما وحديثا. ويمكن إجمال هذه المواقف في ما يلي:
موقف التهيب والإحجام :
وهو الذي يتحاشى أصحابه البحث في مقاصد الشريعة وتعليلَ أحكامها بالحِكَم والمصالح، خشية أن يؤدي ذلك إما إلى إضعاف المقصد التعبدي للتكاليف الشرعية، أو إلى التقول على الشرع وتأويل أحكامه وتحريفها، أو إلى تعطيل نصوصه باسم المقاصد. ولذلك أيضا فهم يستبعدون القول بالمصلحة المرسلة وغيرها من وجوه الاستصلاح، لكونها تشكل مرتعا خصبا لتحكيم العقول والأهواء. وهم يؤْثرون – عوض ذلك – القولَ بالتعبد والتوقيف وإمضاء النصوص الشرعية بلا تعليل ولا تقصيد، إلا بكثير من التحفظ والاحتياط والضبط. وقد يصل الأمر عند البعض إلى حد إنكار أي غرض مصلحي للشريعة، واعتبارِها مجرد ابتلاء وتعبد لا أقل ولا أكثر، كما هو موقف الظاهرية.
موقف التسيب والإفراط :
وهو موقف المسترسلين في تعليل الأحكام، اعتمادا على الظنون والتخمينات والأذواق والآراء المسبقة، ويدخل في هذا الصنف القائلون بتقديم المصلحة على النص. ومنهم من يصلون إلى حد إسقاط النصوص وتجاوزها بدعوى أن المهم هو رعاية المقاصد ولا شيء سوى المقاصد. بل إن هذه «المقاصد» نفسها كثيرا ما يتم ادعاؤها وصياغتها والجزم بها خارج أي أصول مرجعية أو ضوابط منهجية.
موقف الاعتدال والتوازن :
وهو الاتجاه الذي يتعامل مع المقاصد بدون تسيب ولا مبالغة في التهيب. يَعتبر أن «الأصْل في الأَحْكَام المَعقولِيةُ لا التَّعَبدُ» (1)، لكن إثبات المعقولية في أي نص أو حكم بعينه يحتاج دائما إلى دليل علمي مقبول. فهذا هو الموقف الأوسط، الجامعُ بين المباني والمعاني، بين المقاصد والضوابط، «وهو الذي أَمَّه أكثرُ العلماء الراسخين» (2)، على حد تعبير الإمام الشاطبي.
ولقد خصصت ثلاثة محاور لهذه المواقف، قدمت من خلالها عروض علمية من قبل علماء وأساتذة باحثين متخصصين من داخل المغرب وخارجه، تلتها تعقيبات ومناقشات، فضلا عن محاضرات في بعض القضايا التطبيقية النموذجية. وكان مسك ختام الدورة تلك المحاضرة العلمية التي ألقاها فضيلة الدكتور أحمد الريسوني مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط.
ولا ننسى في ختام هذا التقرير المركز من الإشارة إلى أن المشاركين في الدورة أجمعوا من خلال مناقشة العروض التطبيقية النموذجية على أن البحث المقاصدي صار ضرورة ملحة – أكثر من أي وقت مضى – لترشيد شؤون الحياة العامة، والإسهام في حل المعضلات الراهنة.
الدكتور عمر جدية عن الجهات المنظمة
———
1 – هذا الذي عليه جمهور الفقهاء والأصوليين، وانظر القاعدة رقم 128 من (معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية) الطبعة الأولى – 5/455.
2 – الموافقات 2/ 393.