شرح الأربعين الأدبية [37] في التمثل بالشعر


روى الترمذي روى الترمذي عن شُريح «عن عائشة،

قال: قيل لها: هل كان النبي يَتَمثَّل بشيء من الشِّعر؟

قالت: كان يَتمثل بشِعر ابن رَواحة، ويَتمثّل ويَقول:

ويأتيكَ بالأخبار من لم تُزوّد(1)..

هذا حديث من أحاديث التمثل النبوي بالشعر، وفيه ثلاثة أمور: السؤال، والمسؤول، والجواب.

أما السؤال فهو  « هل كان النبي  يتمثل بشيء من الشعر؟»، وهو يدل على الحرص على معرفة سنة رسول الله ، وموقفه من الشعر والتمثل به، ولهذا السؤال خلفيتان:

خلفية تعبدية؛ لأن المسلم مطالب بمعرفة أحكام الله تعالى في كل شيء، والاقتداء بالنبي  في ذلك.

وخلفية معرفية؛ لأن المسلمين يقرؤون في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) (2)، فيتبادر إلى أذهانهم بكل تلقائية هذا السؤال: أيَتَعَلَّق مضمونُ الآية بقول الشعر فقط، أم بقوله وسماعه والتمثل به؟!

ونحن نستبعد- بناء على تينك الخلفيتين- أن يكون سبَبُ السؤال تحوُّلا في الموقف من الشعر وتحرّجا منه، وقد رأينا في باب سابق أن مَجالِسَ الرسول   والصحابة من بَعدِه كان يُنشَد فيها الشعر.

ومقتضى ما سبق أن موضوع السؤال هو التمثل بالشعر، لا قوْل الشعر، أو سماعه.

و(مثل) «أصلٌ صحيح يدلُّ على مناظرَة الشّيء للشيء»، و«تَمَثَّل إذا أَنشد بيتاً ثم آخَر ثم آخَر… والـمَثَلُ: الشيء الذي يُضرَب لشيء مثلاً فـيجعل مِثْلَه»، وهذا الشعر المتمثل به له علاقة بالمثل، وهو «عبارةٌ عن قولٍ في شيءٍ يُشْبِهُ قولاً في شيءٍ آخَرَ بينَهما مُشَابَهة لِيُبَيِّنَ أحدُهُمَا الآخَرَ ويُصَوِّرَهُ نحوُ قولِهم: الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ، فإن هذا القولَ يُشْبِهُ قَولَكَ: أَهْمَلْتَ وقْتَ الإمكانِ أَمْرَكَ».

والتمثل بالشعر بناء على ذلك جَمْع بين الشعر والمَثَل في قولٍ واحد، وإنما يكون الأمر كذلك إذا تَضمن ذلك الشعرُ حِكمة.

فقد ظهر أن سؤال السائل موضوعه استعمال النبي  للشعر الجاري مجرى الأمثال في المواقف التي تَقتضي ذلك.

وأما الأمر الثاني في الحديث فهو أن السائل قَصَد أم المؤمنين عائشة؛ لِما لديها مِن عِلمٍ بسيرة النبي  في بيته؛ لأنهم كانوا يرون سيرته بين الناس في الحياة العامة ويعلمونها، وما أظن أنه خفي على بعضهم وحتى على السائل أنه  تمثل بالشعر في العمل وغيره، ومن ذلك تمثله في بناء المسجد، وحفر الخندق، وغير ذلك…، ولشيوع ذلك ترجح لدينا أن موضوع السؤال ليس هو مطلق التمثل النبوي بالشعر؛ بل هو الحياة الخاصة للنبي  وهو داخل بيته، فإذا أردنا حينها أن نعيد صياغة السؤال وفق ما انتهينا إليه، فسيكون بهذه الصيغة: أكان النبي  يتمثل بالشعر في بيته؟

والسؤال بتلك الصيغة منسجم مع أمر ذيوع سماع النبي  الشعر وتمثله به في عدد من المواقف والمناسبات خارج بيته، ومنسجم كذلك مع التوجه بطلب الجواب من زوج النبي  دون غيرها.

وأما الأمر الثالث فهو جواب أم المؤمنين عائشة، وهو: «كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل… »، وفي رواية عند الإمام أحمد أنها قالت: «كان رسول الله  إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة…»(3)، وفي جواب أم المؤمنين مسائل:

منها أن النبي  كان يتمثل بشعر شاعرين هما ابن رواحة وطرفة.

ومنها أن تمثله بالشعر مرتبط بمناسبة الشعر المتمثل به لمقتضى الحال، لا بإسلام قائله (ابن رواحة) أو كفره (طرفة).

ومنها أنه كان يتمثل بشعر ابن رواحة، وأما طرفة فكان يتمثل فقط بذلك الشطر من شعره لمناسبة اقتضته.

ومنها أن تمثله بشطر بيت طرفة مناسبته استراثة النبي  الخبر.

ومنها أن ذلك التمثل كان عادة من عاداته، فأم المؤمنين عائشة تقول: «كان يتمثل» «كان رسول الله  إذا استراث الخبر…».

د. الحسين زروق

———–

(1)-  صحيح سنن الترمذي، 3/136-137، حديث رقم 2848، ك. الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر، وقد علق عليه الترمذي بقوله:« هذا حديث حسن صحيح»، وقال الألباني: «صحيح». والشعر صدر البيت: «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا» (ديوان طرفة، ص:41)، وهو من معلقة طرفة المشهورة «لخولة أطلال ببُرقة تَهْمَد…».

(2)-  سورة يس، الآية 69.

- مقاييس اللغة، 5/296 مادة «مثل».

- لسان العرب، 11/611 مادة «مثل».

- مفردات ألفاظ القرآن، ص: 759 مادة «مثل».

(3)- مسند أحمد، 17/208-209، حديث رقم 23905، وقد علق عليه محققه بقوله: «إسناده صحيح»، ورواه الهيثمي في(مجمع الزوائد: 8/128)، وقال: «رجاله رجال الصحيح».

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>