شرح الأربعين الأدبية [36]في تناشد الشعر وسماعه في المسجد


روى الترمذي «عن جابر بن سمرة، قال: جالست النبي
أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشِّعر،
ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية
وهو ساكت، فربما تبسم معهم» (1).

هذا حديث من أحاديث سماع النبي [ الشعر، وتناشده وتداوله في مجالسه، وفيه ثلاثة أمور:
أولها أن راوي الحديث جابر بن سمرة كان شاهدا على تلك المجالس، وأنه حضرها «أكثر من مائة مرة»، وفي رواية عند الإمام مسلم أن سماك بن حرب سأله: « أكنت تجالس رسول الله [؟ قال: نعم، كثيرا»(2)، فنحن أمام مجالس كثيرة شكلت عادة نبوية، وقد ذكرت رواية الإمام مسلم وقتها، فعنده أن جابرا قال عن النبي [: «كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم»(3).
ومما يستفاد من هذه الرواية:
أن تلك المجالس كانت تَتِم بالمسجد.
وأنها كانت تعقب صلاة الصبح وما يَتْبَعها من ذِكر.
والأمر الثاني أن تلك المجالس كان الصحابة فيها يقومون بعملين اثنين:
أحدهما أنهم كانوا يتناشدون الشعر، وفي رواية «ينشدون»(4)، وسواء أكان هذا اللفظ هو الأصل أم ذاك فالحاصل منهما معا أن الشعر كان يُنْشَد في تلك المجالس، وأن الإنشاد كان مشتركا؛ لأن لفظ «يتناشدون» أو «ينشدون» مسند إلى الجماعة، ومِن ثم فنَحن أمام فِعل جماعي يشترك فيه الصحابة بتبادل الإنشاد.
والأمر الثاني مرتبط بالأول بَعض ارتباط، وهو أنهم كانوا «يتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية»،
وفيه أنّهم «يتذاكرون» الدال على المشاركة، وفي رواية «يذكرون»(5).
وأن موضوع التذاكر أمور الجاهلية.
ولفظ الجاهلية هنا إما أن يكون دالا على الزمن فيُفيد تذاكُر عاداتهم وقصصهم وأخبارهم… أو يكون دالا على العقيدة فيفيد تذاكر ما كانوا عليه من ضلال.
وتُضيف رواية الإمام مسلم أنهم كانوا يضحكون، مما يعني أن تلك الأشياء التي كانوا يتذاكرونها فيها ما يُضحك، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت فيها مواقف مُضحكة وخالية مما يذكّر بالصراعات ويُحْيِي العصبية.
ويلاحظ أن تلك المجالس لم تكن مقصودة لذاتها؛ بل كانت نتيجة المدة الفاصلة بين الصلاة وأذكارها وشروق الشمس، إلا أنها صارت تتم بشكل تلقائي بسبب ذلك، وبسبب ما يتخللها من ترويح عن النفوس وتناشد للشعر.
وأما الأمر الثالث فهو أن النبي [ بِحُكم سُنَّته في انتظار الشروق كان لا يَقوم مِن مصلاه مباشرة بعد الصلاة، فكان لذلك يَسمع أصحابه يتناشدون الشعر، ويَتذاكرون بعض أمور الجاهلية، ولم يَكن يخوض معهم في ذلك؛ لأن رواية الباب تقول: «وهو ساكت»، على أنه عندما يَسمعهم يَحْكون مواقف مضحكة ويضحكون «فربما تبسم معهم».
وفي ذلك أن تلك المجالس كانت على مرأى ومسمع منه.
وأنها كانت قريبة جدا منه.
وأنه كان لا يشاركهم إنشاد الشعر وحكي أمور الجاهلية.
وأنه لم يكن ينهاهم عن ذلك.
وأنه ربما تَبَسَّم معهم.
وعلى كل حال فالسماعُ النبوي للشعر المنُشد مِن لدن الصحابة في المسجد والابتسامة النبوية لهما دلالتهما، وأقلّ ما يُفيده ذلك في المسجد:
إمكان عَقد المجالس العادية بعد الانتهاء من الذكر.
وإمكان إنشاد الشعر وسماعه.
وإمكان ذِكر بَعض أمور الجاهلية.
وإمكان الضَّحك.
وذلك الإمكان حُجَّتُه سنَّةُ النبي [ التي حدَّثنا عنها جابر بن سمرة، وشَهِدها وشَهِد عليها أكثر من مائة مرة.
بقي أن نُشير إلى أنَّ عادة الصحابة في تناشد الشعر في مجالسهم استمرت بعد وفاة النبي [؛ ودافع عنها حسان بن ثابت أمام عمر بن الخطاب كما رأينا في باب سابق، وشهِدَ عددا منها أبو خالد الوالبي (ت100هـ)، فقد قال: «كنا نجالس أصحابَ رسولِ الله [ فيتناشدون الأشعارَ ويَذكرُون أمرَ الجاهلية»(6).
د. الحسين زروق
—————–
(1)- صحيح سنن الترمذي، 3/137، حديث رقم 2850، ك. الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر، وقد علق عليه الترمذي بقوله: «هذا حديث حسن صحيح»، وقال الألباني: «صحيح». والحديث في صحيح مسلم، 5/140، حديث رقم 286/670، ك. المساجد، ب. فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، لكن دون محل الشاهد عندنا وهو «يتناشدون الشعر».
(2)- صحيح مسلم، 5/140، حديث رقم 286/670.
(3)- م.س.
(4)- صحيح سنن النسائي، 437، حديث رقم 1357، ك, السهو، ب. قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم.
(5)- في مسند أحمد، 15/329، حديث رقم 20689 بإسناد حسن «يذكرون».
(6) – كتاب الأدب لأبي بكر بن أبي شيبة، ص: 360، خبر رقم 386.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>