إذا كان الإعلام إمبراطورية كاسحة تسعى لفرض سلطانها على المشاعر والعقول، بما تملكه من جيوش جرارة، وترسانة عالية الفعالية والإحكام، فمما لا جدال فيه أن الإشهار يعد أحد أفتك آليات تلك الترسانة، أو أذرعها الضاربة التي لا تفتأ تمارس أخطر المهام في رسم مسار التفكير لدى السواد الأعظم من الناس، وتشكيل أذواقهم وتأجيج أشواقهم، بما يخدم الأهداف القريبة والبعيدة لأباطرة الإعلام الذين ليسوا بدورهم إلا أداة طيعة مسخرة في يد إمبراطورية أعظم، هي إمبراطورية المال والأعمال، التي لن يهدأ لها بال، إلا إذا جثمت بالكامل على الإنسان وسلبته روحه وإرادته الحرة، وكل مقوم من مقومات إنسانيته التي هي معقد فخاره ومناط كرامته. وإن قرائن الواقع لتشهد بما لا لبس فيه، بأن هزائم منكرة قد ألحقتها تلك الإمبراطورية العاتية بقطاع واسع ممن كتب لهم أن تصلهم نيران مدافعها المتطورة، وأن يتلقوا قصف صواريخها الكثيف الذي لا يفتر ليل نهار. وإن كل عين واعية لخليقة بأن تبصر الأجسام الواهنة، بل والأشلاء الممزعة والجثث المتعفنة التي تخلفها حرب الإشهار الماكرة في دروب سفينة المجتمع.
وإن كل من يدرك أساليب المكر السيئ التي يسلكها الإشهار بكل صيغه وأشكاله المرئية والمسموعة، يدرك عظم الخسائر التي تتكبدها سفينة المجتمع في كل وقت وحين، وتتكبدها الحضارة بشكل عام، بسبب تقزيم الإنسان، وإفراغه من روحه الإنساني وجوهره الأخلاقي، فإنه من السذاجة بمكان، الاعتقاد بأن آلة الإشهار الكاسحة تقتصر في هديرها الموصول على استهداف جيوب ضحاياها ممن يقعون تحت طائلتها أو منطقة نفوذها، إنها لا تقنع بذلك أبدا، ولا يحصل لها الإشباع الآثم إلا إذا نالت من جوهر الإنسان فسلبته أخلاقه، وتلاعبت بقيمه التي يفخر بها وقلبتها رأسا على عقب، وانتهت إلى تحويله إلى عبد ذليل يسمع ويطيع، ولا يحرك ساكنا أمام الأرواح الشريرة التي تسكن وحش الإشهار الهصور، الذي يهصر المعاني الجميلة، ويطوح بفضائل الأخلاق في نفوس من يصرعهم من ضعاف النفوس والعقول، إنه لا يملك إلا الاستكانة والإذعان، بسبب الضعف النفسي وفقدان المناعة العقلية.
وإن كل من يتابع جهود العصرنة وحركة التحديث التي لا تهدأ ولا تكل، يدرك السر في حرص الدوائر والقوى الفاعلة من ورائها على تعميم القنوات والوسائل التي توصل الوصلات الإشهارية إلى القاصي والداني، حتى لا يفوت الصغير والكبير، ما تروج له من «مباهج الحياة»، وحتى لا يفلت أحد من قبضة الآلة الرأسمالية المنهومة، وإسار العولمة الزاحفة، بما يحقق لها السيطرة المنشودة، وصولا إلى غايتها المقدسة التي ليست إلا «استحمار البشر».
ولقد اهتدى أباطرة الإعلام ومهندسو الإشهار إلى المادة السحرية التي تضمن لوصفاتهم الفعالية والجاذبية، إنها المرأة في وضعها المبتذل وصورتها العارية من رداء الحشمة والحياء، والتي كلما « تفننوا» في الزراية بها وتجريدها من ملامح إنسانيتها، كلما زادوا من شحنات الغواية والإغراء.
إننا عندما نجيل الفكر فيما جعلت التكنولوجيا مطية له من المفاسد والشرور التي حاصرت وتحاصر الإنسان من كل جانب ـ وذلك في ظل استحواذ القوى الشريرة على مقدرات تلك التكنولوجيا ـ نعطي لأنفسنا مشروعية التساؤل عما كانت ستكون عليه الأحوال الحضارية في عصرنا الراهن، وعما إذا كان من حق الناس ـ إذا خيروا بين مدنية تؤثثها التكنولوجيا بصخبها ولهوها وصفاقتها، وبين حضارة بسيطة تزينها الأخلاق الفاضلة والقيم السامية ـ أن يختاروا النموذج الثاني.
وإذا كانت الأمور بمقاصدها وجواهرها، لا بقشورها وأعراضها، فإن من الأصالة اختيار التي هي أحسن وأن تنحاز الإنسانية إلى ما يحفظ لها إنسانيتها ويوفر لها كرامتها، ولو في ظل مستوى أدنى من الرفاهية والمتاع، فما قيمة الاستمتاع المادي والرخاء التكنولوجي في ظل جدب روحي وخواء أخلاقي؟
وسيظل هذا التساؤل محتفظا بمشروعيته إلى أن تتمكن قوى الخير والصلاح من تسخير ثمرات التكنولوجيا فيما يضمن تعميق الإنسان بوجوده وفرادته وشهوده، من خلال الارتقاء به في سلم الفضائل والقيم، وجعله يصطلح مع خالقه عز وجل، ومع الكون الذي يكتنفه.
سيظل الإشهار معول هدم وتغريب وتخريب في سفينة المجتمع، ما استمر تحت قبضة الشياطين، يسخرونه لمسخ أهلها وسوقهم إلى الهاوية في نهاية مطاف مأساوي رهيب.
وإن للمرء أن يتساءل ماذا كان سيكون وضع السفينة من التألق والصلاح لو وظف الإشهار في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟
د. عبد المجيد بنمسعود