الشيخ أبو الحسن الندوي، حكيم الوسطية (الأخيرة)


الوسطية في الموقف من الثقافة الغربية

كان الشيخ أبو الحسن رجلا متمكنا من عدد من اللغات، منها الأوردية والعربية والفارسية والإنجليزية، واطلع على الثقافات والآداب التي تضمنتها هذه اللغات اطلاع خبير، وقد مكنته الإنجليزية من معاشرة الفكر الغربي معاشرة تسمح له بتقويم ذلك الفكر والحكم عليه . ونحن نعرف أن الطبقة المثقفة في البلاد الإسلامية قد انقسمت انقساما مريعا في الموقف من الحضارة الغربية، فهنالك من دعا إلى أن نأخذ الغربية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، إذا أردنا لأمتنا الخير والنهضة، وهذا ما نادى به طه حسين في كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر)، ومنهم من انكب على نفسه، ودعا إلى أن نصم آذاننا عما حولنا من حضارة الغرب، رغم ضجيج آلة هذه الحضارة المصمة للآذان، ومن هؤلاء الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، وبقيت طائفة ثالثة في حيرة من أمرها، لا تعرف ما تأخذ وما تدع من هذه الحضارة. وثلة من العلماء والدعاة والمفكرين جمعوا المعرفة بحضارة الشرق وحضارة الغرب، فدعوا إلى التجديد على بصيرة، وجعلوا الوسطية هاديا ونصيرا، وقد كان الشيخ أبو الحسن من أبرز هؤلاء، وقد ساعده على ذلك النشأة الحسنة، وكونه تربى في كنف أبيه العلامة عبد الحي الحسني الندوي، ثم في رعاية أخيه الدكتو عبد العلي الحسني الندوي، الذي كان هو أيضا من المطلعين على الثقافتين الإسلامية والغربية، فكان أثره على أخيه عظيما.
ولعل بعضهم يرى أن الجمع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية كالجمع بين الأضداد:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأعجب من أن أجمع الجَدّ والفهما
ولكن الجمع بين الأضداد لم يكن عزيزا على همة أبي الحسن رحمه الله تعالى. يقول متحدثا عن سنوات التكوين: (لقد ولدت في بيت كان موضوعه الحبيب بل هوايته التأليف في سير الرجال وطبقاتهم، وتراجم العلماء وأهل الفضل، وخاصة الذين أنجبتهم أرض الهند… قد نشأت بصفة خاصة على حب التفنن في الفضائل والجمع بين الأشتات بل الأضداد من الفضائل الإنسانية وأنواع العلوم والمعارف والآداب والثقافات وعلو الهمة، والقدرة الفائقة على التنسيق بينها، وتسخيرها للوصول إلى غاية مثلى وخدمة العلم والدين، حتى لو أدى ذلك إلى المشاركة في علوم وآداب يتحاشى عنها كثير من علماء الدين، ويعدونها من ضالة الآداب وبراية الآداب.) [أبو الحسن علي الحسني الندوي الداعية الحكيم والمربي الجليل. ص.12 ـ 13]
وعلى هذا لم يكن من المستغرب أن يقف الشيخ أبو الحسن موقفا عدلا من الحضارة الغربية.
إنه الموقف الذي يستوحي الآية الكريمة: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة:8). وقد كان أبو الحسن رحمه الله شديد الإعجاب بمحمد إقبال، فلم يكن غريبا أن يلتقي الرجلان العظيمان في الموقف من الحضارة الغربية، فهي حضارة لا تخلو من خير ونفع، وإن كان شرها أكبر من خيرها، وضررها أكثر من نفعها1. ولقد عاش محمد إقبال في الغرب، ولا سيما في بريطانيا وألمانيا، حيث نال من هناك شهاداته العلمية العليا، وقد شبَّه الحضارة الغربية بنار النمرود. ولكنه يحمد الله تعالى على أن نجاه من هذه النار كما نجى إبراهيم من نار النمرود من قبل.
وكذلك هو شأن الشيخ أبي الحسن، فقد اطلع على الحضارة الغربية واستفاد مما فيها من عناصر الخير، إلا أنه لم يفتن بها، بل كثيرا ما حذر من أحابيلها. وهو يدعو إلى عودة الشباب المسلم المثقف إلى إلإسلام بمعناه الواسع من جديد، وتحريرهم من رق الفلسفات الغربية التي آمن بها كثير منهم بوعي ودراسة، وأكثرهم بتقليد وتسليم، ويقيم في عقولهم أسس الإسلإم من جديد ويغذي عقولهم وقلوبهم.
على أنه ظل راغبا في إقامة جسر التعاون والتفاهم مع هذه الحضارة، ومن هنا كان إنشاء المركز الإسلامي في جامعة أكسفورد، وذلك في شهر أكتوبر من عام 1985، وهو المركز الذي جعل من بين أهدافه التعريف بحقيقة الحضارة الإسلامية في الغرب، وإحداث تواصل فعال بين الشرق والغرب. وقد طالما أثنى الأمير شارلز، أمير ويلز ولي عهد بريطانيا، على جهود هذا المركز. وقد اختير أبو الحسن لرئاسة المركز، وبمساعدة الدكتور فرحان نظامي، وقد ألقى سماحته خطابا في افتتاح المركز، وكان مما قال فيه: «إن قيام هذا المركز الإسلامي في جامعة أكسفورد مبشر بالخير، تنفتح به أبواب جديدة من المعرفة الصحيحة والتفاهم، وتنكشف سبل جديدة للبحوث والدراسات العلمية، لا بد من تعميم الوعي الصحيح لما قدمه الإسلام من دروس الإنسانية والسعي لرفع الإنسان نحو الذروة السامقة والقمة العالية، كانت البشرية تئنّ تحت وطأة الدمار والهلاك، وكادت تلفظ أنفاسها الأخيرة، فقام النبيّ ، ونفخ فيها روح الحياة وبعثها من جديد، وإن التقدمات الهائلة التي أحرزها الإنسان في القرون التالية، تدين لهذا الجهاد والقائد العظيم في سبيل إنقاذ البشرية، والرسول هو الرائد لهذا الجهاد والقائد لهذا الكفاح، ولولا قيامه بهذه الجهود للأخذ بيد البشرية، لما كان لهذه الجامعات والمؤسسات من عين ولا أثر».[في مسيرة الحياة 2/ 81]
خاتمة :
تتعدد مناهج الحركات الدعوية، وتتباين طرق إصلاح المصلحين، إلا أنه لا يماري أحد من أهل الحق والخير في أن الوسطية هي الطريق اللاحب، وهي المنهج الواضح الذي يعبر أصدق تعبير عن روح الإسلام.
ولكننا عند التطبيق العملي قد نجد بعضا من التباين بين الدعاة أو الحركات. وعلى الرغم من الإقرار بشمولية الإسلام، إلا أن هنالك من قد يغلب جانبا على جانب، كأن يغلب الجانب الفكري التنظيري على الجانب العملي التطبيقي، فنجد مثلا تضخما في الأنشطة العامة، وضمورا في الجانب التعبدي، أو نجد عناية فائقة في السمت، وتساهلا في الروح، فقد يحدثك المرء باستفاضة عن مقومات الفكر الإسلامي، ثم تراه ينجر في سلوكه إلى ما ينافي روح الإسلام، كالوقوع في الغيبة أو النميمة، وهو لا يكاد يرى أن ذلك شيء جلل.
وبعض الحركات الإسلامية تقصر عملها على التربية الروحية، وترى العناية بالجانب الفكري أو السياسي من فضول الاهتمامات، وأخرى ترى الإسلام كله في الخدمات الاجتماعية لا تتعداها. صحيح أن هنالك من يرى ــ عن حق ــ أن الشمولية لم تتأت إلا للجيل الأول من الصحابة، وأن الشمولية اليوم لا تتحقق إلا من خلال أعمال كل العاملين للإسلام، إذ هذا يعنى بالروح، وذاك يعنى بالفكر، والثالث يعنى بالجمال..وهكذا يكمل بعضنا بعضا.. ولكن بعضا ممن آتاهم الله الحكمة عرفوا كيف يتحققون بتلك الشمولية، مع الاحتكام إلى الوسطية في كل جانب من جوانب حياتهم، ولعل هذا ما سعينا إلى تبينه من خلال شخصية الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله تعالى، بالوقوف على العناصر الستة التي مثلنا بها على هذا الأمر، وعسى أن يكون قد تحقق بعض مما التمسناه غاية، والله الموفق للصواب.

أ. د. حسن الأمراني
————————-
1- يراجع الفصل الرابع من كتاب أبي الحسن : (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>