منذ الاستقلال والمغرب يبذل جهوداً كبيرة وينفق أموالا طائلة في إصلاح نظامه التعليمي، ولقد كانت الرغبة الوطنية تسير في تعزيز تعليم يعمق قيم الهوية المغربية ببعدها الإسلامي الأصيل والتاريخي التالد، ديناً ولغة وثقافة وانفتاحا على مستجدات العلوم المفيدة.
وقد استقر الاختيار الوطني في التعليم ـ وإن لم يجسد كل الطموحات ـ على تعليم يضم أربعة أقطاب: قطب التعليم الشرعي أو الأصيل، وقطب الآداب والعلوم الإنسانية، وقطب العلوم، بالإضافة إلى قطب التعليم العتيق الذي تأسست منظومته في السنوات الأخيرة -إلى حدود شهادة البكالوريا- بشكل كامل، وهي أقطاب تمثل الهوية المغربية في أصالتها ومعاصرتها. ورغم ما شاب هذه المسيرة من عوامل الضياع والانحراف ورغم ما تعرضت له بعض هذه الأقطاب التي تمثل الهوية الإسلامية (خاصة التعليم الشرعي الأصيل ومواد التربية الإسلامية واللغة العربية والفكر الإسلامي) من مظاهر الاعتداء والإجحاف؛ تقليصاً لحصصها ولمعاملاتها، وإقصاءً لها من الامتحانات الإشهادية، وحرماناً من الحق في تكافؤ الفرص في الشغل والمكانة الاجتماعية بين الخريجين في هذه الشعب والأقطاب، إلا أن الجميع كان يطمح لمزيد من الإصلاحات وينظر للمستقبل بعين الأمل والتفاؤل.
غير أن قرار البكالوريا الدولية جاء صادما ومصادما: صادما لكل الطموحات والجهود السابقة في تعزيز الهوية المغربية والأصالة التاريخية وبناء مغربٍ جديدٍ متشبثٍ بهويته، وقادرٍ على التفاعل الإيجابي مع محيطه العربي والإسلامي والإفريقي والدولي، ومصادما لكل مقومات الهوية المغربية، ومتعارضا مع الاختيارات الوطنية الكبرى التي جسدها أخيرا الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كما أنه قرار يتنافى مع قرار الـمَغرَبَة والتعميم والتعريب والمجانية، ويتعارض مع أبسط الإجراءات القانونية التي تنص على عرض كل القرارات على أنظار المؤسسات التشريعية للبلاد… كما عمَّق مقولة التفاوت الطبقي، حيث سيتم التمييز بين مغاربة حاملين للبكالوريا الدولية، ولهم آفاق في سوق الشغل والعمل، وآخرين محرومين من كل فرص الحياة الكريمة، فقط لأنهم حاصلون على البكالوريا المغربية.
إنها بكالوريا ليس لها من مآل سوى تفضيل المغاربة بعضهم على بعض، وتمكين الطرف الحاصل على البكالوريا الدولية، أو لنقل “الفرونكوفونية”، من زمام الأمور، وإقصاء قانوني واجتماعي لأبناء الوطن الحاصلين على البكالوريا العادية، مما يمكِن أن يسبب العديد من الانزلاقات على المستوى المعرفي والثقافي والاجتماعي، فضلا عن تعميق التنكُّر والتهميش للرصيد الحضاري والقِيَمِي الذي تميز بلدنا الحبيب بالمحافظة عليه.
إن عين العاقل ترى أن المتغيرات الدولية وتجارب الأمم الرائدة في مجال التقدم والاستقرار والريادة لم تنجح في الوصول إلى هذه المراتب إلا بإقرار تعليم وطني يحترم لغة البلاد وهويتها الدينية والثقافية وخصوصياتها الحضارية، ولذلك فبلدنا المغرب لا مكان له في عالم المنافسة الدولية والتفاعل المتوازن إلا بإقرار تعليم منسجم مع الذات الحضارية، ومستجيب لتطلعات المغاربة، كل المغاربة، في الحق في الهوية تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، والحق في الشغل وتكافؤ الفرص. وإنه لمن الحصافة العقلية والغيرة على مبادئنا الإسلامية والوطنية الالتزام بالسير الجاد في سبيل تعزيز المكتسبات التي تم تحقيقها، صوناً للهوية، وضمانا للاستقرار الاجتماعي، ودعماً لريادة المغرب في تحقيق التوازن الداخلي والخارجي.
فهل بعد هذا يسوغ لنا أن نقيم للفرنكوفونية الدخيلة أعراس انتصاراتها على هويتنا القتيلة التي وأدناها بأنفسنا العليلة، وندخل سجن التبعية الذليلة التي قد لا نخرج منها إلا بعد آماد طويلة؟ !