أكثر من موضوع يحتاج إلى تفصيل وأكثر من قضية تحتاج إلى بيان وإيضاح، حينما يُثار موضوع التعليم، لكن بما أن موضوع الساعة هو الامتحان، فلنخصص عمود هذا العدد لموضوع الامتحان، حتى وإن كانت هناك أمور أخرى سابقة عليه، وليس هو – أي الامتحان – إلا نتيجة تكاد تكون حتمية لتلك الأمور.
كان الشعار الذي يرفعه الناس قديما: “في الامتحان يُعَزُّ المرء أو يهان”، ومعنى العبارة، كما هو واضح، أن الممتَحَن إن كان على مستوى جيد من التحصيل فإنه لن يجد أي مشكل في الامتحان، بل إن الامتحان سيرفعه ويصبح عزيزا، أما إن كان على عكس ذلك فإنه في الامتحان سيتَّضِعُ وُيهان بافتضاح أمره واكتشاف مستواه الهزيل.
ويزداد العِزّ سُمُوّاً، والإهانة اتضاعا أن الامتحان -في ذلك الزمان أيضا- لم يكن إلا مَرّة واحدة في نهاية السنة، فإما نجاح وفوز، وإما رسوب وخسران، ولم تكن هناك مكانةُ وسطى تضمن الاحتفاظ بمادة تَم النجاح فيها دون أخرى، وتأجيل تلك الأخرى إلى سنة لاحقة، أوالانتقال إلى السنة الموالية دون النجاح في جميع المواد… حتى الدورة الثانية التي تسمى الآن بالاستدراكية، كانت تُعاد في جميع المواد التي تم اجتيازها في الدورة الأولى، بغضِّ النظر عن النقط التي تمَّ الحصول عليها في هذه الدورة… لقد كان الامتحان يُلخص في كلمتين: نجاح أو رسوب، عِزّ أو هوان…
وجاء “الإصلاح” ليَقلب الأمور رأسا على عقب، وخاصة في الجامعة، فأصبح نظام الدراسة فصليا بعد أن كان سنويا، ومدة الدراسة ثلاث سنوات بدل أربع، واستعيض مصطلح “الامتحان” أو”الاختبار” بمصطلح “التقويم” ومصطلح “النجاح” أو “الانتقال” بمصطلح “الاستيفاء”، كما استعيض “الرسوب” ب”عدم الاستيفاء”، وأصبح الأمر يتعلق بالمادة الواحدة، وفي أحسن الأحوال “بالوحدة” التي يمكن أن تضم في أقصى الأحوال أربع مواد، بدل أن يتعلق بالمقرر جملة وتفصيلا.
هذا بالإضافة إلى أن الطالب يمكن أن يصل إلى نهاية السنة الثالثة، وهو ما زال مرتبطا بمواد “لم يستوفها” في جميع الفصول، فيصبح لا هو في العير ولا هو في النفير كما يقال.
وإذا أضفنا إلى كل هذا ما كان معروفا في النظام القديم للامتحانات، واستمر على حاله في النظام الجديد، وهو المتعلق بطبيعة الأسئلة الموضوعة، حيث إنه من المعروف أن الذي كان يطغى على الأسئلة في جميع مراحل التعليم، هو الأسئلة النمطية، بل أكاد أقول الأسئلة المتكررة شكلا ومضمونا. وذلك في كل التخصصات بما في ذلك التخصصات العلمية الدقيقة كالرياضيات والفيزياء ونحوهما.
ومعلوم أن الأسئلة النمطية تشجع في العادة على المحافظة على المنوال أو “النمط” الذي نُسجت عليه أسئلة معينة، وكذلك أجوبة معينة. ومن ثم فإن الطالب إذا اهتدى إلى معرفة هذا المنوال الأول، فإنه يسهل عليه الإجابة عن كل الأسئلة. وأما الأسئلة المكررة فتتجلى في تكرار أسئلة ذاتها، بعد أن يمر على وضعها الأول وقت معين، مما يعني أن الجواب العادي عنها فضلا عن المثالي أو النموذجي صالح لكل زمان ومكان.
ونتيجة لذلك أيضا يكفي في الامتحان أن يهيئ الطالب أو التلميذ تلك الأسئلة خارج قاعة الامتحان، ثم يستحضرها، حفظاً، بعد ذلك بنصها وفصها في قاعة الامتحان، حتى ولو كان ذلك الاستحضار دون أيّ فهم.
ولعل ما تشهده سوق الكتب المدرسية، بل وحتى الجامعية من كتب خاصة بالأسئلة وأجوبتها مما تَمّ وضعه في سنوات خلت، وإقبال الطلبة والتلاميذ على هذه الكتب بشكل مكثف، بل وتخصيص الساعات الإضافية من أجل إعادة تفسير وإنتاج هذه الأسئلة والأجوبة معا، كل ذلك دليل على الطبيعة النمطية والتكرارية لهذه الأسئلة.
وأما الأسئلة الخصوصية التي تتميز بخصوصية خاصة في الشكل والمضمون ولا يمكن تكرارها – على الأقل من الناحية الشكلية – فأمر غير موجود، أو يكاد أن يكون كذلك.
ونتيجة لهذا كله فإن واقع الامتحانات في تعليمنا الحالي تطبعه العديد من المشاكل، ولا يشجع على الإطلاق على الإبداع، فضلا عن أن يكون له دور في التكوين السليم والتحصيل الوجيه.
ومن ثَم فإن من الخطوات التي ينبغي اتخاذها في مجال إصلاح التعليم إصلاحَ نظام الامتحانات بعينه، بحيث يصبح مسهما في جودة التكوين ومشجعا على الإنتاج والإبداع، وليس على الحفظ، إن لم يكن على الغش والتدليس.
د. عبد الرحيم الرحموني