مع سيرة رسول الله – الإسـراء بين الابتـلاء وهـدايا السمـاء


أترجع إليهم وقد أخرجوك؟ قالها زيد بن حارثة لمحمد بعد عودته من رحلة الطائف (الباغية) قبل رحلة الإسراء والمعراج (الحانية)، فقال النبي واثقًا في نصر الله له وحفظ الله إياه: (إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، إن الله ناصر دينه ومظهر نبيه)، عندها جاءت بوادر الأمل، ومشاعل النور، وبشائر النصر وصدق الصادق الأمين: إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب.
يعلمنا أن الأمل هو إكسير الحياة، وباعث نشاطها، ومخفف ويلاتها، وصانع البهجة والسرور فيها، إنه شيء حلو المذاق، جميل المحيا، عالي القيمة.
وينبهنا أن المؤمن أوسع الناس أملاً وأصفاهم نفسًا وأطهرهم قلبًا وأرحبهم صدرًا، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشارًا، لأنه يؤمن بأن هناك قوة تدبر هذا الكون لا يخفى عليها شيء ولا تعجز هي عن شيء، قوة غير محدودة وغير محصورة وغير متناهية، هي قوة الله، إنه يؤمن بالله قاهر غالب، قدير رحيم، يحيي ويميت، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، يعز ويذل، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
(آل عمران: 26)، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يمنح الجزيل ويغفر الذنوب، يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات، إله هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، وهذا ما أراد النبي الكريم أن يورثه في أمته..!! إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا… ما الذي حدث؟
جاء عداس نصرانيًا يحمل قطفًا من العنب، وبدأ النبي يأكل فقال بسم الله الرحمن الرحيم – يورث آداب الإسلام، لم ينس ربه، ولم يفقد مهمته رغم الأذى والبلاء – فتعجب عداس وقال هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلدة، قال النبي من أي البلاد أنت؟ قال من نينوى – بلد في العراق – قال النبي بلد أخي يونس بن متى، فانكب عداس يقبل رأس رسول الله ويده، وتحول الصد والإعراض هناك إلى عناق وقبلات هنا، وأسلم الرجل في هذا الموقف.
بعث الله نفرًا من الجن استمعوا إلى القرآن وأعجبوا به قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ (الجن: 1، 2)﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين (الأحقاف: 31، 32).
دخل النبي الكريم مكة في جوار المطعم بن عدي، حيث أعلن الأخير في قومه إني قد أجرت محمدا، فألبسوا أسلحتكم، وكونوا في أركان البيت، ثم خرج إلى مكة وقال يا معشر قريش إني أجرت محمدًا فلا يهجه أحد، وخرجت كتيبة بأسلحتها تستقبل النبي ، وتحيط به، حتى وصل إلى الكعبة وصلى فيها، ثم استقبل وفود الحجيج يعرض عليهم الإسلام، حتى دخلوا في دين الله أفوجًا.
ليثبت للدنيا بأسرها أن الأمل لا بد منه لدعم الرسالات، وإقامة النهضات، ونجاح البطولات وإذا فقد المصلح أمله فقد دخل المعركة بلا سلاح يقاتل به، بل بلا يد تمسك بالسلاح، فأنّى يرتجى له انتصار؟ أو يأتي إليه فلاح، أما إذا استصحب الأمل فإن الصعب سيهون، والضر سينكشف، والبعيد سيدنو، فالأيام تقرب البعيد والزمن جزء من العلاج.
وليعلم الدنيا كلها أن المنحة في طيات المحنة، وأن الخير يكمن في الشر، وأن مع الكرب فرجا ومع العسر يسرا، فإذا كانت الأرض قد ضاقت به ذرعًا، فإن السماء فتحت له أبوابها فتنقل بينها سماء بعد سماء، وإذا كان أهل الأرض تنكروا له فإن أهل السماء رحبوا به والتفوا حوله، فكان قائدهم وإمامهم، واستمعت الجن له، وبلغت عنه، وكانت هدية الأمة المحمدية فرضية الصلاة في السماء (خمس في العمل وخمسون في الأجر) فكانت صلة الأرض بالسماء، والمخلوق بالخالق، والدنيا بالآخرة، حتى إن محطات الرحلة كانت مراتع الصلاة في أعظم بيوت الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء: 1).

ذ . خميس النقيب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>