شخصية العدد – الشيخ عبد السلام الهرّاس الشاعر الحكيم


أهل العلم بالشعر أنه قال: ” الشّعرُ متعةُ الأديب، وذوقُ البلاغيّ، وحجةُ المفسّر، وسندُ الأصوليّ، ودليلُ الفقيه، وشاهدُ النحويّ، وميزانُ العروضيّ، ووثيقةُ المؤرّخ، وخارطةُ الجغرافيّ”. ثم هو من قبلُ، ومن بعدُ : ” بوحُ العاشق، ونفثةُ المصدور، وحنينُ الغريب، وأنينُ الفاقد، وبهجةُ الواجد، ومرثيةُ العزيز، وآهةُ الملتاع، وتجربةُ الحكيم”.
اِستودعه العربي أسرارَ حياته، واستراحَ إليه، فأفضى إليه بمواجعه، وبثه أشواقه، وقيد به المآثرَ، وحفظ به الأنساب، واستنفرَ به العزائم واستنهضَ الهمَمَ، وسجل به العاداتِ والتقاليدَ، وذكر الأيام .. وبهذه المعاني الشريفة ، وبهذه الأهداف النبيلة ، وعلى هذا المهيع اللاحب، فهم الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس الشعر، وقرض الشعر، وحضّ على تعلم الشعر، حيث صاغ من النغم أعذبه، وتوزعت أغاريده وأنغامه في بعض الصحف، والمجلات السيّارة.
والشاعر الأستاذ الهراس يتعامل بحكمة في ركوبه للبحور الشعرية الخليلية، كما يعرف خبايا الشعر وأسراره. و”الشاعر الحكيم” هو الذي يقوده تأمله إلى الحق؛ فيُهدى إلى «العلم بحقائق الأشياء، ويُمنع من الجهل والسفه ويُنهى عنهما»، إنه الشاعر الذي تنطوي حكمته على “«علم»، و«فطنة »، و «دراية». يقول الشاعر الأستاذ الهراس عن الشعر(1):
ما رأى الشعرُ شجاعاً خائفاً
حَمَلاً طوراً وأحياناً سَبـُـــــعْ
زائغَ اللحظ عفيفاً عزمُــــــه
طاهرَ الذيل مريباً إن سَجَعْ
ليس شعراً عجمةٌ مـــــوغلةٌ
في ضبابٍ من غموض يا “لَكعْ”
وحروفٌ دون معنى إنــــما
سوءُ قول ليس يخلو من وَجَعْ
وسطـورٌ بائساتُ المُـــجتلى
ومعانٍ مائعاتٌ من شَمَعْ
قــــــــــــبح اللهُ زمانا داعرا
يرفع اللغوَ الرقيعَ المصطنعْ
كلما أمعن في المسْخ “سَمَا”
في حضيض “السخْف” بئس الضطجعْ
إنما الشعرُ عميقٌ غـــــورُه
مركبٌ سهلٌ ولكنْ مُمْتنـــــــــــــعْ
كما يُعد الأستاذ الدكتور الهراس أحد القراء المتذوقين للشعر العربي قديمه وحديثه(2):
فاقبلن مني تحايا وامــــــق
يعشق الشعرَ الذي لا يُرْتعْ
أنعشت أوتاره نفسي الــــتي
عانقت”فنا” على الكون سطعْ
فاستفاقت تحتسي أكؤسه
في جنان حيث ذوقي قد رتعْ
وللشاعر رأي في مقام آخر يكشف لنا عن مقياس ديني خلقي، فني جمالي في استحسانه للشعر، يقول: «وإني -والحمد لله- مازلت أقرأ الشعر العربي المعاصر، وأتجاوب مع الذي يعجبني، وأنفر من الذي ينبو عنه الذوق وينفر منه الطبع، فلا يشفع له عندي أوزانه وقوافيه، كما لا يشفع للكلام الغث الساقط مجيئه حسب القواعد النحوية والصرفية»(3).
هذا، ومما ينبغي أن يذكر لفضيلة الأستاذ الدكتور الهراس أنه سُئل يوما من لدن أحد الفضوليين برحاب كلية آداب فاس التالدة، العتيدة، العامرة، عن سبب تسميته بالهراس؛ فأجاب في التوّ ـ على عادة الحكماء الذين يملكون جواب سائليهم على شفاههم ـ ببيت شعري من فخامة البحر الطويل الذي يمتاز بطول النّفيس، ويناسب غرض الفخر(4):
وَإنّي لهرَّاسٌ لكلّ “كبيصة”
مُعوّدةٍ ألا يحلّ بها الخيرُ
ويطيب لي أن أنفض بين يدي هذه المحجّة البيضاء قصيدة للشاعر الأستاذ الهراس كان قد دبجها في مجلة “دعوة الحق” الغراء، وهي قصيدة عذبة الألفاظ ،أنيقة المعاني، استوحاها الشاعر من إحدى الرسائل التي أرسلها إليه شيخه “أبو عمر الداعوق” رحمه الله، يجسد فيها شاعرنا حفظه الله، شيئا من واقع المسلمين، وقد انعكس حزن الشاعر، وغيرته على أديم هاته القصيدة الجميلة،الباكية، الشاجية. وطبَعِيٌّ أن يكون الأمر كذلك ؛ لأن شاعرنا عُرف منذ شرخ الشباب بغيرته على الإسلام والمسلمين، ولئن نُظمت هذه القصيدة في ستينيات القرن الماضي؛ إلا أنها ما زالت تحتفظ بوجاهتها إذ جاء فيها (5):
بلادُ المسلمين دمٌ وثــــــــارُ
وزخرفة الكلام لهم شعــــارُ
وأشلاءُ المبادئ دامــيــــاتٌ
تمزقها المطامعُ والصغارُ
وأعلامُ الشقاق مرفـرفــاتٌ
نُحييها، ويرفعها الكــــــبارᵎُ
وفي كل الحدود لنا جــدار
ومن كل القلوب لنا جــدارُ
سلاحُ “الآخرين” عداه يُصمي
ونحن علينا أسهُمُنا تـــــدارُ
سراعٌ للكلام وللأمانــــي
بطاءٌ من الفعال ولا ثمارُ
حفاةٌ، بل جياعٌ، بل عــــراةٌ
وملءُ بلادنا ذهب بــــوارᵎُ
وإن يكنِ الفراغُ له”مقــــام”
فإن المسلمين له جـــــــوارُ
يتيه حماسُهم “شرقا” و”غربـــا”
ومن عجب لهم ظلهمْ منارُ،
ليغترفوا “المذاهبَ” في خشوع
بليدٍ، والمذاهبُ لا تعــــــارᵎُ
وأنا، كالعبيد، لنا اعــــــــــتزاز
بماضي “الآخرين”، أليس عارُ؟
وأن “القوم” قد سكنوا شموسا
وقومي للحضيض بهم يسارُ
وأن “القوم” في دعة وأمــــن
وقومي لا أمانٌ ولا قــــــرارُ
لغاتُ العالمين لها صعـــــود
وحرفُ الضاد يرهقه انـحدارُ
شعوبُ المسلمين تساق قهرا
إلىالمهوى،وليس لها اختيارُᵎ
غدا الإسلامُ مُغترباً شريـــدا
فلا أُلــــــــــــــف له منا وجارُ
يكيد له الشرارُ بكل حــــــي
فلا بلغتْ مقاصدَها الشــــــرارُ
فيا ربي، ولا يُرجى ســــواه،
إلى كم بالضلال لنا دِثــــــــــارُ؟
فنور”بالحكيم” لنا قلوبنـــــا
علاها الرانُ والإحَن الكثـــــــارُ
هذه لوحة شعرية لا تنقصها الألوان، ولا التعبير، ولا الموسيقى، رسمها الشاعر ملحنا، مقفيا بهذه الراء التي تترك في النفس بتَكرارها جَرْسا موسيقيا، ورنينا مؤثرا، كما تنسجم بإطارها الجميل مع البحر الكامل(مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن×2)، ثم إن رتابة التفعيلات المكرّرة وتراخيها في هذا البحر تنهي البيت تلو الآخر بلهجة تأوّه وانكسار، معبرة عن أحزان عميقة في نفسية الشاعر، والمتلقي على حد سواء.
ولعل أهم صفة تميز شعر أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس هي صفة الإيجاز، واللمحة السريعة. تلك الصفة التي تغنى بها الشاعر أبو عُبادة البُحْتُريُّ (ت 284هـ)، في قوله(6):
والشعرُ لمْحٌ تكفي إشارته
وليس بالهزل طولتْ خُطًبه
وإذا كان من كلمة أسوقها هنا في الختام؛ فإنني أرجو ألا يكون حديثي كشِعر الزبرقان بن بدر، على حد وصف ربيعة بن حذار الأسدي، حين قال: ” أما أنت يا زبرقانُ فشعرك كلحم أسخن، لا هو أنضج فأكل، ولا تُرك نيئا فينتفع به “.

ذ. محمد حماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المشكاة،ع:44/43: س:2004، ص:154، وما بعدها. والقصيدة من البحر الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن×2)، وقد أصاب عروضها، وضربها الحذفُ.
2ـ نفس العدد، والصفحة.
3ـ دعوة الحق، ع: 331،س:38 ،ص:132.
4ـ من محاضرة بتاريخ:2011/ 12/21، للأستاذ الدكتور المفضل كنوني. وفي رواية أخرى: ” ألا يمر بها الخير”. والكبيصة: الرأس باللغة الإسبانية.
5ـ دعوة الحق، ع:7/6، س:1966، ص:94، والقصيدة من الكامل(مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن×2)، بعروض، وضرب مقطوفين.
6ـ تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، نجيب محمد البهبيتي، ص: 258،(طبعة مجهولة الرقم)، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1982.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>