خطبة منبرية – إصلاح النفس بداية كل إصلاح


الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله.
عباد الله:
اتفق أهل العلم أن العبد لا يستطيع الوصول إلى مرضاة الله عز وجل والنجاة يوم القيامة، إلا بعد تهذيب نفسه والسيطرة عليها،
ذلك أن النفس تمثل القاطع والحاجز بين قلب العبد وبين الوصول إلى ربه، ومن هنا وجبت معرفة النفس قصد حسن التعامل معها.
أيها العبد: هل أنت من صنف الذين يعرفون نفوسهم أم من الذين يجهلونها؟
هل تهتم بنفسك وتحاول إصلاحها أم أنك من الذين لا يهتمون بنفوسهم ولا يحاولون تطهيرها؟
هل تدرك ما للنفس من خطورة كبيرة وأهمية جسيمة؟
هل أنت من الصنف الذي يعرف صفاته الذميمة ويحاول علاجها والتخلص منها، أم أنك من الذين يعرفون صفاتهم الذميمة وأمراضهم الكثيرة، فيعتزون بها ويعتبرون ذلك مكسبا وربحا باهراً.
أم أنك من الصنف الذي لا يريد أن يتعرف على أمراضه، ولا يملك القوة لمواجهة نفسه؟
عباد الله: يجب أن نعيد النظر في اهتمامنا بأنفسنا لنقضي على تلك المظاهر الهابطة والصفات الناقصة، المخالفة لهذه الشريعة.
قال تعالى: والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ، (الشمس.)
بيّن الله تعالى لنا أنّه ألهم نفوسنا دوافع الخير ونوازع الشر: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، وهذا الخير وهذا الشر ليسا قدراً مسيطراً على شخصية الإنسان، بل بإمكان الإنسان أن يزكو بنفسه ويرقى بها، وبإمكانه أيضاً أن يدسيها وينحطّ بها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَاوَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ،لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من هذا الدعاء: (اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها)،رواه مسلم.
وإن من رحمة الله تعالى بعباده أنه تجاوز عما توسوس به النفوس ما لم يعملوا بذلك أو يتكلموا، قال : «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم» (رواه البخاري ومسلم).
اعرف نفسك بنفسك أيها العبد…
إن الإنسان منا لا يستطيع أن يُصلح غيره قبل إصلاح نفسه، ولا يستطيع أن يؤثر في محيطه قبل أن يتحكم في نفسه.
وإن الانتصار على النفس وأهوائها هو بداية كل انتصار.
النفس!… تقودك إلى الهلاك أو تقودها إلى بر الأمان.
النفس! … عجيبة فريدة في أحوالها…
النفس!… بحر الأماني ومستودع الأسرار.
النفس! تميل دوماً إلى رغائبها،
النفس! يعجبها أن تسير طليقة لا حاجز يحجزها عن رغبتها.
والنفس كالطفل إن تُهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ.
وإن أسباب الهزائم في الغالب تكون من الأنفس.
أصاب المسلمين في غزوة أحد الشهيرة ما أصابهم من القرح الشديد، وتساءل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ما سبب الهزيمة؟ ألسنا نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله ، وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: أولما أصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (آل عمران 165).
إن اعتراف الإنسان بأن له عيوبا خطوة هامة في طريق الإصلاح، لأن الإعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس، بل هي إحدى صفات المعرضين عن رسل الله سبحانه وتعالى، قال محمد بن كعب القرظي: «إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه ثلاث خصال: فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصراً بعيوبه».
أقول ما تسمعون أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية :
عباد الله :
إن المنهج السليم الذي يعيننا على إصلاح أنفسنا يبدأ بالمكاشفة حيث تُحدد الأدواء والأمراض والعلل، التي تعاني منها النفس، ثم المعاهدة التي تمثل العزم الصادق على إصلاح العيوب ومعالجة الأمراض، بعد ذلك تأتي المراقبة، وهي دوام علم العبد بأن الله عز وجل مطلع عليه يعلم ظاهره وباطنه، وأنه سبحانه كلف جنوداً يراقبون أعماله وأفعاله وأقواله، ليشهدوا له أو عليه يوم القيامة.
بعد المكاشفة والمعاهدة والمراقبة تكون المجاهدة، وهي مجاهدة النفس، ذلك الرفيق المخادع، مضمار الصراع بين الحق والباطل، مفتاح الهلاك أوالنجاة.
والمجاهدة تضع العبد بين مفترق الطرق، فإما أن يجاهد نفسه في تطبيق أمر الله وترك ما حرمه، فيكون من الفائزين، أو تغلبه نفسه فلا يترك منكراً ولا يأتي بمعروف، فيكون من الخاسرين، والمجاهدة تكون في ميدان التطبيق.
وفي الأخير تأتي مرحلة المحاسبة، وهي وسيلة من أعظم وسائل التربية الإسلامية لإصلاح النفس وتهذيبها وترويضها وتقويمها، فبالمحاسبة يقف العبد على حال نفسه من الصحة والمرض، وبها يتمم السير على طريق الفلاح، ويبعدها عن طريق الهلاك.
إن الذي يحصي أخطاءه ومعاصيه وتفريطه وتقصيره، يمكنه إصلاح الوضع قبل فوات الأوان، فالمحاسبة تدفع الإنسان إلى الاستغفار والتوبة، والعزم على عدم العودة.
إن المحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشيته سبحانه.
قال جل وعلا: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَتَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ، (الحاقة 18).
إذا كان إصلاح النفس هو بداية الإصلاح، وتزكية النفس هو رأس الهموم، إذا كان الفلاح والسعادة أو الضياع والخيبة، إذا كان الفوز والخسارة، كل ذلك رهين بتزكية النفس أو تدسيتها لقول الله عز وجلّ: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ، فإن مهمة تربية النفوس وحملها على الاستقامة هو أولى الأولويات.
اللَّهم أنت خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها؛ فزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير الراحمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د.الوزاني برداعي *
————-
* خطيب مسجد الفتح بفاس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>