إن من يجيل النظر في أحوال سفينة المجتمع المغربي بخاصة، وأحوال المجتمع العربي الإسلامي بعامة، ترتسم أمام عينيه لوحة قاتمة السواد، تعشش في ثناياها جيوب البؤس والحرمان، ويلفها من كل جوانبها أحزمة صارمة من القهر والطغيان، وينتشر في كل خط من خطوطها أصوات الأنين التي تتناسل ليل نهار، لتحدث ضجة هائلة مدوية تطبق أقطار الأرض وأجواز السماء، فقد انفرط شمل السفينة أيما انفراط، وأضحت في عين الناقد البصير في حكم الألواح المتفرقة المتناثرة التي لا يجمعها جامع، إلا جامع التشتت والانفراط، وطال الأمد على ربابنتها فقست قلوبهم، فصار إحساسهم إزاء مشاهد الخراب التي طالت مكونات السفينة وأجزاءها، أشبه بذلك الحاكم الذي حيك له لباس وهمي زعم له حائكه أنه من أجمل ما صنعت يد الحائكين، فارتداه وراح يتبختر مصدقا لذلك الزعم، وراح المحيطون به يبدون انبهارهم وإعجابهم، بل ويلهبون حناجرهم بالمكاء، وأكفهم بالتصفيق، تعبيرا عن ذلك الإعجاب والانبهار، والحال أن لا وجود لأي لباس على جسم ذلك الحاكم المتبختر، فضلا عن أن يكون من أجمل اللباس.
أينما وليت وجهك في دروب المجتمع وساحاته، وفي مواقعه وقطاعاته، طالعتك مظاهر البؤس والنكد، والشقاوة والاعوجاج، فلا يرتد إليك بصرك إلا وهو خاسئ حسير من شدة الخيبة والألم، فلا السياسيون يمتلكون من رهافة الإحساس ما يشعرهم بما يداهم السفينة من أخطار، ويحفزهم إلى التصدي لها بنباهة الحكماء وبسالة الفرسان، لأن ذلك النوع من الإحساس، من نفيس الخصال، هو قرين التقوى وسليل الشرف الرفيع، ونفوس هؤلاء منها يباب، ولذلك تراهم ينغمسون بكل بلاهة في لجة الشهوات، يلهثون وراء الأمجاد الزائفة، ويسوقون كل بضاعة مغشوشة، وكل خاسر بائر من المشاريع والعقائد والأفكار.
ولا المثقفون والمفكرون قد تطهرت قلوبهم من الأدران، وتحررت من الوساوس وعبادة الأوثان، لأنهم جانبوا النهل من المنبع الصافي المحتوي على عناصر المناعة ومقومات الصمود ضد الباطل والثبات على الحق، وولغوا حتى الأعناق في المستنقعات النتنة، واستمرؤوا الانخراط في جوقة الغربان، مستمرئين ما تمدهم به شياطين الإنس والجن من زخرف القول، يستهلكونه استهلاكا على أنه جوهر الثقافة، وينشرونه في نوادي السفاهة والابتذال.
ولا الأمنيات الغالية والأحلام اللذيذة التي ملأت جوانح الشعوب المقهورة وراودتها نحو التحرر والانعتاق قد عانقت الواقع البائس الكئيب، وصارت باقة جميلة يستنشق أريجها المكروبون، أو مغتسلا باردا يستحم فيه المقهورون من هجير الظلم والطغيان، ويطرحون فيه عناء القرون ولأواء العصور والأجيال. فهاهي شجرة الربيع العربي، لم تكد تبدو أزاهيرها للعيان حتى صوحت واجتالتها خفافيش الظلام، بل إن أوراقها أخذت في التساقط بشكل أثار استغراب السواد الأعظم من الناس، في الوقت الذي كانوا يتشوفون لقطف الثمار، وعاد الخريف ليبسط غلالته على الشجرة الجرداء، نكاية في الصيف الذي هو موسم الجني والقطاف.
هل اغتيلت أحلام الطفولة والشباب في غد باسم تتفتح فيه البراعم والأزهار، وتعود فيه متغربات الأطيار إلى سالف الأوكار؟
هل استتبت الأمور لخفافيش الظلام، وآن لها أن تطبق على شجرة الحياة، وتمتص منها الرحيق، وتحولها إلى حطام؟
هل يصح في الأذهان، أن تسلس السفينة قيادها لسفلة الربابنة والقرصان؟
هل كتب على الشيوخ الذين عايشوا عهود القهر والحرمان من الحياة في ظلال الإيمان والأمان، والسلامة والإسلام، أن يلاقوا حتوفهم وغصص الإحباط تملأ حلوقهم وصدورهم، وخناجر اليأس من أن يدرك ذلك بنوهم وحفدتهم، تنفذ إلى سويداء قلوبهم؟
هل يصح في الأذهان أن تنقلب سنن التاريخ والعمران، فيمكن للباطل وأهله، وتنكس راية الحق وتطأطأ رؤوس الشرفاء؟
إن اليأس من الفرج وتحسن الأحوال إذا حل بأهل سفينة المجتمع يشكل خرقا عميقا في كيانها، وإذا جاز لمن أقفرت نفوسهم من مشاعر الإسلام أن يكونوا نهبا لخنجر اليأس القاتل، فليس يجوز ولا يصح بحال أن يقترب اليأس من حمى من أينعت في نفوسهم شجرة الإسلام، لأنه في عرفه قرين الكفر، مصداقا لقوله تعالى: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( يوسف 87).
إنه لأمر من أمور الهدى المنهاجي في غاية العمق والإعجاز أن يقترن اليأس من روح الله بالكفر، فذلك مناط الرعاية التربوية الربانية التي ترتبط فيها الرحمة بالصرامة، لأنها من قواعد العمران ودعامات الإصلاح والبناء، وكيف يداخل نفوسهم اليأس ورب العزة يخبرهم بأنهم الأعلون : وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْاَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ (آل عمران:139)
إنه ليس يفت أبدا في نفوس المسلمين ذوي الإيمان الحق والوعي العميق، أن يشهدوا في مقطع من مقاطع التاريخ صولة للطغيان والطغاة، أو حتى تدجينا لبعض من علق عليهم أمل الإصلاح، لأنهم يعلمون علم اليقين، أن العاقبة للتقوى لأن الله يغار على دينه وملكه، فلا يسلم أمرهما لأهل الشر والفساد والطغيان، ولأنهم يضعون نصب عيونهم وملء قلوبهم قول الله عز وجل: هَا اَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (محمد: 38)
د. عبد المجيد بنمسعود