الشيخ أبو الحسن الندوي، حكيم الوسطية (5) – الوسطية في السياسة 1


هذا مجال فيه كثير من المحاذير، ولذلك اعتبر بعضهم، عن إخلاص، أن السياسة رجس من عمل الشيطان، فاجتبوا كل شيء له صلة بالسياسة، وما علموا أنهم بذلك يعتزلون الحياة نفسها، ولا شك أن الإخلاص هو المنطلق، ولكن الإخلاص ينبغي أن يكون مقرونا بأن يكون العمل صوابا.
أما أبو الحسن فقد كان له في السياسة صولات وصولات، ولكن من منطلق الداعية، لا من منطلق السياسي المحترف. فلذلك كان يلتقي بالزعماء السياسيين والحكام، ويكاتبهم، وينصح لهم، ولكن برفق ولين. ولو رجعنا إلى سيرته (في مسيرة الحياة) لتبين لنا عدد الزعماء والرؤساء والملوك الذين التقى بهم ناصحا.
وكان رحمه الله يلخص فلسفته في دعوة الحكام إلى الإصلاح في كلمة طالما كان يرددها، وهي: «نحن نريد أن يصل الإيمان إلى أهل الكراسي، لا أن يصل أهل الإيمان إلى الكراسي»، وقد سمع أبو الحسن هذه الحكمة من أحد حكماء اليمن، والحكمة يمانية، ومنذ ذلك الحين اتخذها شعارا ومنهجا، حيث وجدت في نفسه قبولا واستجابة وانسجاما مع ما كان يومن به، ولأنه المنهج الذي كان يتبعه الإمام السرهندي، وهوالإمام الذي كان أبو الحسن يكن له تقديرا عظيما. [في مسيرة الحياة:2، ص . 23 وص.55]
إذا كان صحيحا أن السياسة هي فن الممكن، وإنه لصحيح، فإن أبا الحسن الندوي سياسي من الطراز الأول. فالناس من السياسة أحد رجلين: إما رجل يرى السياسة رجسا من عمل الشيطان، فهو يعتزلها بكل صورها، ويهرب منها أي مهرب، وإما رجل يراها سلما للارتقاء إلى منصب الحكم، وإلى الحصول على جاه دنيوي عارض، وإن رآه عريضا، فهو يأخذها بكل ما تتصف به من ضروب المكر، أو يسعى إلى غايته عن طريق مبدأ ميكيافيللي (الغاية تبرر الوسيلة)، فلا يراعي في ذلك أخلاقا ولا أعرافا ولا قيما.
ولكن هنالك صنفا ثالثا يرى السياسة منهجا للإصلاح، يقوم على الرفق والنصح، ويسعى إلى استنبات النموذج المثالي في الواقع بالحكمة والموعظة الحسنة. فقد كان رجاء ابن حيوة معينا لعمر بن عبد العزيز على اتباع طريق الصلاح، والشيخ أبو الحسن من هذا الصنف. وهنا ينبغي أن نذكر بما قررناه، وهو أن الوسطية التي هي فضيلة بين رذيلتين، لا تعني دائما الوقوف في وسط الطريق، بين الظلمة والنور، وبين الخير والشر، بل هي النور والخير، وهي تعني العدل والقسط، فأيما طريق حقق لنا العدل، فذلك هو طريق الوسطية، حيث لا منزلة وسطى بين الجنة والنار.
لقد كنت في ريعان الشباب ممن يرى أن القوة ــ وربما الثورة الدموية ــ وحدها السبيل إلى تحقيق الغايات، وإصلاح ما فسد من أوضاع الأمة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلقية، وكان ذلك من فعل تأثير حياتنا الجامعية التي كانت تسودها شعارات الثورة الحمراء، والعنف الثوري، لذلك وقفت، كما وقفت معظم الحركات الإسلامية، مع الثورة الإيرانية التي قادها الخميني، باعتبارها ثورة إسلامية. ولكنني عندما التقيت بشيخنا أبي الحسن، تعلمت منه شيئا كثيرا. وقد كان موقفه واضحا من الثورة الإيرانية، ورؤيته ثاقبة، في وقت ضلت فيه العقول والأحلام، وزلت فيه الأقدام. لقد قال لنا رحمه الله عندما لقيناه في لكنهو عام 1986، وقد سألناه: ما الذي يمنع من مؤازرة الثورة الإيرانية؟ فكان جوابه: إذا كنا سننتصر لها لأمر واحد فقط، وهو أنها أعلنت الوقوف ضد الاستكبار العالمي (وهذه عبارته رحمه الله تعالى) فما الذي يمنعنا من الوقوف مع كوبا مثلا، وهي تقف ضد الاستكبار العالمي منذ عقود؟ إن الميزان عندنا هو العقيدة. فهل هي حقا ثورة إسلامية؟ في تلك الفترة كان رحمه الله قد كتب كتابه القيم: (صورتان متضادتان:السنة والشيعة)، وقد بين في هذا الكتاب الفرق الجوهري بين السنة والشيعة، وقد كان بعض أهل السنة من المناصرين للثورة الإيرانية يتذرع ويقول إن الخلاف بين الطائفتين خلاف تاريخي فقط، ولم يعد له وجود الآن، لأن المصحف الذي يوزع في طهران اليوم هو نفسه الموجود في بقية أنحاء العالم. ولكن الأيام، ولاسيما في الأحداث الأخيرة التي يشهدها العالم العربي، أثبتت أن الخلاف أعمق من أن يكون تاريخيا.
وعلى الصعيد العملي، أشار الشيخ أبو الحسن، في كلمة ألقاها في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي العام الثالث، الذي انعقد في 1987 إلى أن (من إعجاز القرآن أنه أشار إلى نوع جديد من الهجوم والغزو على البلد الأمين، والبيت العتيق، لم يجربه العرب في العصر الجاهلي وفي زمن البعثة، وهو حرب المؤامرات والدعايات والدعوة إلى إثارة الفتن)، ووضح ذلك قائلا: ( وأشرت في ذلك إلى الاستراتيجية الإيرانية العقائدية والسياسية، التي ظهرت طلائعها في موسم الحج الماضي، وقلت: إن العرب لم يكونوا يعرفون إلا الحرب السافرة والهجوم العلني، والذي كان من نماذجه غزو أبرهة بجيشه مكة، الذي جعله الله هباء منثورا، أما إرادة الإلحاد بظلم فلم يعرفها العرب، وأنذر بها القرآن الكريم وهدّد عليها بقوله: (نذقه من عذاب اليم)، وهو مصير هذه المخططات الرهيبة الدقيقة التي يفكر فيها المقنعون بالإسلام، الهاتفون بقيام دولته ومجده كذبا وزورا». [في مسيرة الحياة:2/210].
يقول: د.محمد أكرم الندوي:» لم يهتم الشيخ الندوي بالسياسة كأحد لاعبيها فقط، ولكنه عاش الأوضاع السياسية للمسلمين في الهند والعالم العربي والإسلامي يتأثر بها ويستوحيها، ويقوم بإسداء التوجيهات والنصائح للمسلمين.

أ. د. حسن الأمراني
يتبـــع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>