شرح الأربعين الأدبية [33]في حب الله تعالى أن يُمدَح


روى الإمام أحمد «عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أن الأسود بن سريع قال: أتيت رسولَ الله [ فقلت: يا رسول الله، إني قد حَمدتُ ربي تبارك وتعالى بمحامد ومِدَح وإياك. فقال رسول الله [: «أمَا إِن ربك تبارك وتعالى يحب المدح، هات ما امتدحتَ به ربك». قال: فجعلتُ أُنشده، فجاء رجل فاستأذن، … قال: فاستنصتني له رسول الله [… فدخل الرجلُ فتكلَّم ساعة ثم خرج، ثم أخذتُ أُنشده أيضا، ثم رجع بعد فاستنصتني رسول الله [.. فقلت: يا رسول الله، من ذا الذي استنصتني له؟ فقال: «هذا رجل لا يحب الباطل، هذا عمر بن الخطاب»(1).

هذا حديث من أحاديث غرض المدح، وفيه ثلاثة أمور:
أولها أن الأسود بن سريع كان شاعرا، وأنه قال أشعارا بعضها في حمد الله تعالى ومدحه، وبعضها الآخر في مدح النبي [، وقد أحب أن يَسمعَ رسولُ الله [ منه ذلك.
وثانيها جواب النبي [ : «أمَا إِن ربك تبارك وتعالى يحب المدْح، هات ما امتدحت به ربك»، وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد «هات، وابدأ بمدحة الله عز وجل»(2)، وعند الحاكم «أما ما أثنيت على الله تعالى فهاته، وما مدحتني به فدعه»(3).
والمتفق عليه بين تلك الروايات ثلاثة أشياء:
الإخبار بحب الله تعالى المدحَ، وفيه إيذان بالترخيص في ذلك.
والإذْن للأسود أن يُنشد ما قاله في حمد الله ومدحه.
والتأدب مع الله تعالى بتقديم مَدْحه على مدْح غيره.
والمختلَف فيه شيئان:
إذن الرسول [ للأسود أن يُنشده ما مدَحه به، وقد انفردت به الرواية الثانية للإمام أحمد: «هات وابدأ بمدحة الله عز وجل»، بينما تختلف عنها رواية المستدرك جملة وتفصيلا: «أما ما أثنيت على الله تعالى فهاته، وما مدحتني به فدعه».
والمصطلح المستعمل في كلام النبي [: فهو في رواية المتن «المدح»، وفي رواية الإمام أحمد الأخرى «المدحة»، وفي رواية المستدرك: (الثناء على الله) و(مدح الرسول [)، فأي تلك المصطلحات استعملها الرسول [؟
وينبغي أن لا يُفهم من قول النبي [: «أمَا إِن ربك تبارك وتعالى يحب المدح» الترخيص في المدح بإطلاق، فقد رأينا في بابٍ سابق أن المدح الذبح، وأن مِن المدح ما هو منهي عنه، وإنما يُفهم كلام النبي [ هنا في سياقه، والسياق هو أن الشاعر حَمِد الله تعالى ومَدَحه، فكان الجوابُ بأن الله تعالى يحب أن يَحمَده عبادُه ويمدحوه.
وأما الأمر الثالث في الحديث فهو أن الأسود أنشد النبي [ أشعارا، وأن الرسول [ كان يُنصت له، ولم يقطع ذلك إلا بسبب دخول عمر بن الخطاب ] وتكلمه معه، ويفيد ذلك أن الشعر ينبغي ألا يكون مُعطِّلا للمصالح العامة، حتى وإن كان في مدح الله تعالى.
على أنه ينبغي أن لا يُفهم مِن قول النبي [: «هذا رجل لا يحب الباطل، هذا عمر بن الخطاب» أن استنصات الأسود لعمر إنما كان لأنه لا يحب الباطل، إذ حمل كلامه [ على هذا يعني أن ما كان فيه النبي [ باطل، وهو منزه عن ذلك؛ بل كلام النبي [ يحتمل معنيين:
أولهما أنه أراد أن يُعَرّف الأسود بعمر، فاكتفى بذكر أهم صفة له وهي أنه لا يحب الباطل.
وثانيهما أن مجيء عمر إلى النبي [ وكلامه معه إنما كان لوقوع باطل أراد عمر أن يخبر النبي [ به لوضع حد له، أو للاستئذان في أن يبادر هو بذلك.
وبين هذا وذاك فتلك صفة عمر، وذلك موقفه من الباطل، وتحركه ضده.
على أنه ينبغي أن لا يفوتنا ونحن نتحدث عن الأمر الثالث من أمور حديث الباب أن الأسود بن سريع أطال الإنشاد، ودليله قوله: «حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح»، وقوله: «فجعلت أنشده… ثم أخذت أُنشده أيضا…»، فقد جاء بعدد من القصائد يحمد الله تعالى ويمدحه فيها، وإذن فقد خص الرسول [ هذا الشاعر بوقت، وصبر عليه، وأنصت له، حتى قال ما عنده، وفيه تنبيه عملي إلى العناية بالشعراء: باستقبالهم، وسماع أشعارهم، والإنصات لهم، ولا سيما إذا كان شِعرهم في حمد الله تعالى والثناء عليه.
د. الحسين زروق
———
(1) – مسند أحمد، 15/527، حديث رقم 15527. قال عنه محققه: «إسناده حسن لأجل علي بن زيد بن جدعان»، ورواه الحاكم في (المستدرك، 4/808-809، حديث رقم 6635)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وأورده الهيثمي في(مجمع الزوائد، 9/66) وقال: «رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف»، وأورده الألباني في(الصحيحة، حديث رقم 3179) وقال: «وهذا إسناد رجاله ثقات غير معمر بن بكار السعدي».
(2) – مسند أحمد، 12/518، حديث رقم 16252 بإسناد حسن.
(3) – المستدرك، 4/808-809، حديث رقم 6635.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>