شكِّل الواقع بكل مظاهره وتجلياته مناطَ التغيير وموضوع الإصلاح في العمل الإسلامي المعاصر، بل إن تغيير الواقع وإصلاح ما به من فساد واختلال، وإخضاعه لتصورات الإسلام وقيمه وأحكامه، يشكِّل عاملاً مهماً من عوامل قيام حركة البعث الإسلامي المعاصر، وغاية من أكبر غاياتها.
غيـر أن المـتأمـل لأشكال الخطاب، وأنواع الفعل الدعوي المعـاصر بأبعـاده المختلفة: تنظيمياً، وتربوياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، لا يجد كبير عناء في الوصول إلى استنتاجٍ مؤسفٍ مفادُه: ضعف حضور فقه الواقع في الأوراق والتصورات، وفي البرامج والخطط، وفي الأنشطة والأعمال. هذا الضعف يؤثــر لا محالة على مردودية العمل، يَسِمُهُ بسمة الارتجال والعفوية، ويقلل من ثماره ونتائجه في الواقع. هذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل فمن الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر نذكر:
1 – الاشتغال بالقضايا الهامشية على حساب القضايا المركزية:
إن من أهم ما يميز العمل الإسلامي المعاصر خاصية الشمول؛ ذلك أنه يشتغل على كل الجبهات، ويسعى إلى إقامة الدين في كل مجالات وميادين الحياة العامة: في التربية، والثقافة، والإعلام، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع وغيرها. غير أن هذه المجالات وما يبذل فيها من جهود لا تكون على نفس الدرجة من الأولوية والأهمية دائماً، وإنما يكون بعضها -أحياناً – أولى وأهم من بعض، حسب ما تمليه وتقتضيه ظروف الزمان والمكان والإنسان. ومن ثم فلا بد للعمل الإسلامي المنظم من سلّم أولويات يحدد مجالات العمل، ومرتبة كل مجال، ويضع برنامجاً لما يَلزم من الأنشطة والأعمال فـي كــل مـجال، ومـرتبة كـل عمـل أو نشاط، حسب ظروف ومعطيات الفئة البشرية المستهدفة، واللحظة التاريخية، والبيئة الجغرافية. وكل ذلك يتأسس في المقام الأول وبالدرجة الأولى على مدى القدرة على فقه الواقع، ورصد معطياته بكل دقة وموضوعية. ولعل الناظر في الواقع الراهن للعمل الدعوي يلحظ اختلالاً واضحاً في سلّم الأولويات، وارتجالاً بيّناً في توزيع الجهود والمبادرات، والأمثلة في ذلك أظهر وأكثر من أن تحُصر وتذكر. وأصل الداء في كل ذلك كله هو: غياب فقه الواقع الذي عليه ينبني فقه التنزيل.
2 – التيه وعدم تحديد الوجهة، وعدم امتلاك الرؤية المبصرة، واستراتيجية العمل:
لكل عمل من الأعمال رؤية واستراتيجية تناسبان طبيعة ذلك العمل، وتأخذان بعين الاعتبار خصوصياته، وظروفه في الزمان والمكان والإنسان. ويقصد بالرؤية في مجال العمل الإسلامي: التصور العام الذي يحدد منطلقات العمل، وأهدافه، ووسائله، ومجالاته، وضوابطه العامة. في حين يقصد بالاستراتيجية: الخطة العامة التي تحدد منهج وكيفية تنزيل الرؤية، وتصريفها في الواقع، وذلك من خلال برنامج أولويات يرتب مجالاتِ العمل حسب الأهمية، ويتكون من مراحل، وأهداف، ووسائل دقيقة ومحددة وقابلة للقياس. فإذا كانت الرؤية تكتسي طابعاً تصورياً نظرياً عاماً؛ فإن الاستراتيجية تتميز بطابعها المنهجي الإجرائي والعملي، باعتبارها أجـرأة وتنزيلاً للرؤية. وإذا كانت نجاعة وفعالية الرؤية العامة تقاس بمدى قدرتها على معالجة مشاكل الواقع، والاستجابة لمطالبه وتحدياته؛ فإن نجاح الاستراتيجية ومردوديتها، إنما تقاس بمدى قدرتها على تكييف الرؤية مع معطيات الواقع التفصيلي وحسن تنزيلها عليه، أي أن فقه الواقع يظل مصدراً أساسا ومرجعاً مهماً في تكوين كل من الرؤية والاستراتيجية. إلا أنه بالرجوع إلى العمل الدعوي المعاصر فإن الخَصَاص الواضح، والفقر الكبير في الأوراق والأدبيات المتعلقة بفقه الواقع، أفرغ الرؤى والاستراتيجيات من محتواها، وحَدّ من فعاليتها وأثرها في توجيه الواقع والتأثير على أحداثه ومجرياته.
3 – تحول العمل الدعوي المنظم إلى عمل نخبوي:
النخبوية من أبرز سمات العمل الدعوي المعاصر، ومعنى النخبوية: «انحصار العمل الدعوي في فئة أو فئات معيـنـة مــن النــاس ذات خصائـص، وانتمـاءات عرقيـة، أو جغرافية، أو ثقافية، أو اجتماعـية، أو مهـنية، واحـدة أو متقاربة دون باقي فئات المجتمع؛ مما يضيق من آفاق العمل، ويحد من انفتاحه على أوسع مجال بشري، حين يطبعه بلون عرقي، أو جغرافي، أو اجتماعي، أو ثقـافي، أو مهـني واحــد». وظــاهرة الفئويـة أو النخبوية في العمل الدعوي ترجع في الغالب إلى افتقار العاملين فيه إلى القدرات والكفايات التواصلية التي توصلهم إلى الآخر، وضعف درايتهم بالمداخل والمفاتيح التي توصلهم إلى مختلف فئات وتشكيلات المجتمع، وإنما يرجع ذلك في نهاية المطاف إلى ضعف استيعاب الواقع الاجتماعي من حيث مكونات المجتمع وفئاته، والعوامل الموجِهة له والمؤثرة فيه، وأنماط التطلعات والاتجاهات الحاكمة لسلوك الجماهير، والـمُحدِّدَة لأشكال العلاقات بينهم، وهذا بدوره يرجع إلى أحــد سبــبين أو إليهما معاً، وهما:
أولاً: ضعف الانخراط الميداني والمشاركة الفعلية في الواقع الاجتماعي، بما يؤدي إلى مراكمة الخبرات الميدانية والمعارف الصحيحة حوله، باعتبارها المدخل إلى تكوين تصور كلي شامل للواقع الذي اصطلحنا على تسميته بـ«فقه الواقع».
ثانياً: الافتقار إلى الأدوات المنهجية، والآليات النظرية التحليلية الكفيلة بحسن قراءة الواقع، وتدبر مجرياته، وتحليل بُنياته، وسبر أغواره.
د عبد الكبير حميدي