افتتاحية – القرآن الكريم والحضارة الإسلامية


يثير البعض ما عرفته الحضارة الإسلامية من طفرات علمية كبيرة، وما أنتجته من إبداعات متميزة، وخاصة خلال القرون الأولى، ويتساءلون عن مدى إمكانية حدوث ذلك دون الاعتماد على مصادر سابقة، محاولين إرجاع الأمر إلى أصول أجنبية، حتى في أخص خواص ما عُرف به العرب قبل مجيء الإسلام: أي فصاحة اللغة وبيانها، ومن ثَم ينكرون على سيبويه ما جاء به في علم النحو، وأسَّسه على غير سابق أصل، ويستعظمون على الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض أن يأتي بما أتى به في الأوزان والقوافي، ويرجعون ما جاء به الكثير من العلماء في مجالات عديدة إلى التأثر بعلوم ومعارف كانت لدى شعوب أخرى… لكنهم في الوقت ذاته يستشهدون بما نُقل عن أرسطو أو غيره من العصر اليوناني القديم، في كثير من الموضوعات، ويسلِّمون بهذه المنقولات دون أن يضعوها في دائرة الشك، أو موضع تساؤل عن احتمال وجود مصادر قديمة يمكن أن يكون أرسطو قد اعتمد عليها في نقل هذه المعلومات!!.
إن إثارة التساؤل عن المصادر التي يمكن أن تكون وراء ما أبدعه العلماء المسلمون هو أمر علمي ومنهجي دقيق، إذ لا شيء يأتي من فراغ، ولقد صَرَّح أسلافنا بما يفيد أن العلوم إنسانيةُ الهوية، كَونيةُ السُّنن، تستجيب لكل من طلب طريقها وسلك سبيلها، ولذلك فإن مسألة التأثر والتأثير أمر طبيعي. لكن التأثر الكبير وربما الأوحد في العديد من العلوم، لم يكن إلا من القرآن الكريم الذي كان ـ وما زال ـ المعين الذي لا ينضب، فهو الذي رسم الأسس العامة لبناء حضارة إنسانية، تخدم الإنسان وما سُخر له في الأرض والسماء. ولقد فقه الجيل الأول هذه الأسس حقَّ الفقه فانفتحت لهم السبل العلمية بكافة مشاربها، وفي مقدمتها علوم العربية التي هي مفتاح سائر العلوم، فبلغوا في كل ذلك مبلغا من العلم لم يصل إلى درجته حتى خَلَفُهم من بعدهم… ومثل ذلك يقال عن سائر العلوم الأخرى؛ بدءاً بعلوم الشريعة وانتهاء بالعلوم الدقيقة، ولذلك ليس من الغريب أن نجد تلك الطفرات الكبرى التي حققها أولئك الرواد.
إن التأثر بالآخر أمر سُنني كوني، لكنه فرعٌ وليس أصلاً، فالحضارة الإسلامية التي تميزت عن كل الحضارات، ولم تشبهها في العديد من الخصائص والسمات، كان بسبب أن أصلها هو القرآن الكريم، الذي نص بصريح العبارة أنه هو «العِلم»، وأن ابتغاء مصدر آخر بدلا عنه، ظلمٌ وضلالٌ وغوايةٌ وتعرضٌ لوعيد الله تعالى: {وَلَئن اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 144)، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ}(الرعد:38).
نعم إن الآيتين تتحدثان عن اتباع الهدى، لكنّ هدى الله ليس محصورا في الجانب التعبُّدي الخالص، ولا يمكن أن يكون كذلك، بل هو في العبادات كما هو في المعاملات، وفي التربية والسياسات، وفي الاقتصاد والإنتاجات، وفي كل العلوم والصناعات، أي في كل ما تُبْنى على أساسه حضارة نافعة.
إن التسليم الكامل والإيمان المطلق بأن الله تعالى لم يُفرِّط في كتابه من شيء، {ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام:39) يقود إلى التسليم بأن الحضارة الإسلامية قد بُنيت على أساس القرآن الكريم، وأن الجيل الأول لم يتربَّ إلا على مائدة القرآن الكريم، وأن أي بناء لأي حضارة تكون نافعة للإنسان ولِما حوله لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا انطلقت من هذا القرآن.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>