1- توطئة :
للوقوف على المعاني والدلالات الشرعية التي جاء بها الوحي الخاتم المتمم والمكمل لما تقدمه من الوحي، المصدق والمهيمن والمحفوظ بحفظ الله تعالى له، وهذه كلها من خصائصه ومحدداته المنهاجية والمعرفية، يجدر بنا الوقوف دائما على المعاني والدلالات اللغوية الني كانت تحملها الألفاظ من قبل. فقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، هو اللسان الذي كانت العرب تعرفه حق المعرفة، وبه وعليه انبنى كيانها الاجتماعي والتواصلي والأدبي. ونحن بين يدي مفهوم “التغيير”، أحد المفاهيم الأساسية المركزية والمحورية في الاعتبار الشرعي، يجدر بنا كذلك الانتباه إلى التغيير الذي أحدثه القرآن الكريم وأحدثته السنة النبوية على مباني ومعاني الألفاظ التي كانت متداولة، والذي كان مدخلا من أهم مداخل تغيير الوعي والفكر والأنفس والقيم والمجتمع.. ولقد ميز العلماء قديما بين الاسم اللغوي والاسم الشرعي، كما فعل ابن فارس في كتابه القيم “الصاحبي في فقه اللغة”. أو بين “الوضع اللغوي”، و”الوضع الشرعي”، أو “الحقيقة اللغوية” و”الحقيقة الشرعية “، و”العرف العام” والعرف الخاص” كما فعل آخرون. والمراد من ذلك كله محاولات رصد التغيير الذي طرأ على بنيات الألفاظ وعلى معانيها ودلالاتها.
وكما يتوجب التمييز في هذا المستوى بين البناء اللغوي والبناء الشرعي، فإنه يتوجب كذلك التمييز في مستوى لاحق بين البناء الشرعي والبناءات الاصطلاحية اللاحقة لدى أهل المدارس والمذاهب والفرق والطوائف.. التي هيمنت استعمالاتها وانتشرت، وأمست مؤطرة لفكر وثقافة وتدين المسلمين عوضا عن المعاني والدلالات الشرعية الأصل التي يفترض أن ترافق اللفظ والمفهوم طوال رحلته ووجوده. وذلك لأنها من المطلق الذي يستوعب الزمان والمكان، وليست من النسبي الذي يستوعبه الزمان والمكان، إذ كل مفردة من القرآن لها كل خصائص القرآن في الاستعمال القرآني. من هذا المنظور -على وجازة القول فيه- سنحاول أن نقتبس بعضا من دلالات ومعاني مفهوم التغيير من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الشريفة، أي من الأصلين المصدرين المؤسسين للمعرفة، وليس من الأصول أو المصادر التي أسستها المعرفة في التداول التاريخي. هذا مع مراعاة البناء المنهجي السنني والتكاملي وفق المحددات والخصائص المفهومية في القرآن كما ألمحنا إليها سلفا.
2- بعض المعاني والدلالات اللغوية:
أهم ما يمكن أن نقف عليه بخصوص الدلالة اللغوية لمادة ّ “غ ي ر” مما له علاقة بمرادنا هنا، قولهم : تغير الشيء عن حاله، تحول . وغيره بدله وحوله، كأنه جعله غير ما كان. هذا بالإضافة إلى دلالات واشتقاقات ليست مرادة، كالغيرة وغيرها. وذلك يعني فيما يعنيه أن التغيير في اللسان العربي قبل نزول القرآن الكريم لم يكن تداوله شائعا بالمعاني والدلالات التي حملها فيما بعد، والتي تهم الأنفس والمجتمعات والقيم والأفكار.. وإنما كان ارتباطه بالمعاني الحسية المظهرية المرتبطة بحياة البدو والترحال في الغالب. وهو معنى قريب من قول الله تعالى في كتابه العزيز على لسان إبليس {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}(النساء : 119)، وقوله تعالى واصفا نعيم الجنة: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه}(محمد : 15).
3- من معاني التغيير في القرآن، الكريم:
معنيان كبيران تدل عليهما آيتان كريمتان مختلفتان لفظا لكنهما متحدتان قصدا، إحداهما وردت في سياق الإيجاب والسلب والثانية في سياق السلب، الأولى تغيير من الحالة السلبية إلى الإيجابية أو العكس. والثانية تغيير من الحالة الإيجابية إلى الحالة السلبية. ومدخل التغيير في الحالتين معا: النفس. وغاية التغيير ومقصده: الصلاح والاستقامة على أمر الله تعالى ونهيه، ومجالات التغيير في الآيتين معا. “ما” المستغرقة لأحوال النفس كلها ولأحوال الواقع كله. أما الآية الأولى فقوله تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11) والآية نص في أن هنالك تغييرين، أحدهما من الله جل جلاله، والثاني من الناس. والعلاقة بينهما سننية سببية متلازمة، هي كترتيب النتيجة على مقدماتها. فحسب سنن الله عز وجل الجارية في المخلوقات، الناظمة والضابطة لأحوالها، لا بد من الأخذ بالأسباب. وإذا كان ذلك جار وجائزاً على الأنبياء أنفسهم، الذين اصطفاهم الله جل جلاله لرسالاته، فهو فيمن دونهم أوجب وآكد ضرورة. فتغيير الإنسان جزئي مدخله النفس، وهو سبب. وتغيير الله تعالى كوني شامل مستوعب لأحوال الإنسان النفسية والمادية المحيطة به، وهو نتيجة. وهذه المطابقة هي ما نص عليه العلماء من تلازم سنن الله تعالى الدينية الشرعية وسننه الكونية القدرية، حيث رتبت إحداهما على الأخرى ترتيبا سننيا منهجيا محكما. كما قال تعالى : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}(الأعراف 96). وقوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا}(الجن : 16- 17). فإقامة سنن الله عز وجل الدينية الشرعية التي هي هداية الرسل والرسالات، تستتبع ضرورة إنعاما إلهيا كونيا قدريا بالخير والبركة، وتعطيلها يستتبع عقوبات إلهية بحجم ومقدار الجحود والإنكار والتعطيل. وكل قصص الأمم الغابرة الهالكة والأخرى الآمنة المطمئنة التي قص علينا القرآن منها شواهد في هذا الباب.
فلابد من مراعاة هذا الضابط السنني أولا. أغلب المفسرين للآية المتقدمة على قول: أن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا. وهو ما يمكن عكسه أيضا، أي أنه سبحانه لا يغير ما بقوم من النقمة والخذلان حتى يغيروا ما بأنفسهم من الغواية والعصيان. وكما ذهب الإمام القرطبي في تفسيره – في تنبيه جيد بين يدي الآية – ، إلى أن العقوبة لا تنزل على أعيان العصاة ضرورة، فقد تكون بسبب من غيرهم إذا تفشت الفاحشة واستفحلت المعاصي . ولقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث))(أخرجه مسلم). وذلك ما يوسع أيضا من دائرة المسؤولية على النفس وعلى الغير، وينسجم مع مفهوم الشهادة على الناس، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي الجاهلين، كما ورد في حديث السفينة لما قال الذين في أسفلها : ((لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا”، فكان التحذير والتنبيه : ((فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))(أخرجه البخاري). فتلازم تغيير ما بالنفس، مع التشديد والتأكيد على شمول واستغراق “ما” لكل أحوال النفس الإيمانية والفكرية، القولية والفعلية، الخلقية والسلوكية…الخ مع ما بالقوم، مع التشديد والتأكيد نفسه على شمول واستغراق “ما” لكل أحوال القوم الذين جاءوا في سياق النكرة، وذلك كما قيل إفادة للتعميم، أي لكل ما يحيط بهم في حياتهم المادية الدنيوية، من التكريم في الذات إلى تسخير المخلوقات والكائنات، وصلاحهم في حالهم هو نفسه فلاحهم في مآلهم. ذلك التلازم يجعل من صلاح النفس علة تدور مع حكمها الذي هو التغيير وجودا وعدما كما يقول الأصوليون. أما الآية الثانية: فقوله تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعهما على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}(الأنفال 53). وهي مثل الأولى في سننيتها ودلالتها وقصدها، وإن نصت على النعمة تحديدا، إذ كل فضل الله تعالى على عباده نعم أنعم وينعم بها عليهم. وكما أن الوضع السيئ ينقلب إلى حسن بإعمال سنن التغيير، فإن الوضع الحسن يمكنه أن ينقلب إلى سيئ، والنعمة يمكنها أن تزول، بإهمال سنن التغيير والانقلاب على قيم الخير والصلاح. ذهب الإمام الشوكاني في تفسيره في التماس معنى الآية إلى ” أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله عز وجل في عباده، عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله جل وعلا ونمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه. وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم، ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين. فإن الله تعالى فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومن عليهم بإرسال وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر، فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها.”
ومثل هذا في القرآن وردت فيه آيات كثيرة كما في قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير}(الشورى : 30).. {ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}(يوسف : 110).. {وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دون الله من وال}(الرعد :11). كما أن ضمائم التغيير في القرآن الكريم كثيرة يندرج فيها كل خطاب وارد عن الإصلاح والإحياء والهداية والاستقامة.. وقبل ذلك الإيمان والتقوى.. فكل ما يسهم في تغيير النفس من حال المعصية إلى حال الطاعة، ومن حال الانحراف إلى حال الاستقامة، هو مراد مضموم إلى معاني التغيير ودلالاته الواسعة.