علـم أصـول الـفـقـه: وظيفته وحـاجـة الأمـة إليه 2


(من خلال ما سبق ذكره في العدد الماضي يلاحظ) أن هذا العلم هو علم تدقيق الأشياء علم ضبط المفاهيم وعلم تنظيم الأفكار أو علم تنظيم التفكير، وهذا أمر أصبحنا في حاجة ماسة إليه خصوصا بعد أن كثر المتكلمون في الشأن الديني، أصبحنا محتاجين إلى من يتكلم ولكن من خلال قاعدة أصولية.

أحد الأشخاص قال بأن فلانا اجتهد في كذا وكتب في كذا وكذا، وهو ممن عرفوا بأنهم يفتون وينشرون ويكتبون في أشياء كثيرة… وأراد السائل أن ينجز بحثا عن هذا الشخص فقلت له: هذا طبيعي، حقك أن تكتب وتقوم ببحث في هذا، ولكن سأطالبك بشيء واحد، وهو أن تضع تقديما للأصول التي اعتمدها هذا الشخص، التي على ضوئها كان يستنبط.. فبحث هذا الطالب، وبعد بحث طويل رجع إليّ ليقول لم أجد له أصلا معروفا. قلت: إذن كان يتكلم وانتهى الأمر.

فهذا ليس استنباطا لأن الذي لا يبرز أصوله الاستنباطية ليس له منهج الاستنباط. المذاهب الفقهية اجتهادات تنطلق من الكتاب والسنة: الناس اليوم يتحدثون عن المذاهب الفقهية، والمذاهب الفقهية ليست تكتلات لأفكار، هي عبارة عن باقات اجتهادية، فالمذهب المالكي مثلا له ستة عشر أصلا (وهي للإشارة: القرآن، السنة، الإجماع، القياس، الاستدلال، الاستصحاب، سد الذرائع، الاستحسان، قول الصحابي، المصلحة المرسلة، عمل أهل المدينة، الاستقراء، الأخذ بالأخف، مراعاة الخلاف، العرف، العادة) ، فبهذه الأصول كان المذهب مذهبا.

المذهب المالكي ليس قول مالك بل هو مدرسة.وهو أقوال متوالية متتالية، ولكن وفق منهج في الاجتهاد، لو حاد الإنسان عن تلك الأصول لما كان من حقه أن يسمي نفسه مالكيا، ونفس الأمر بالنسبة للحنفية والحنبلية والشافعية، هذه مجموعات أصولية، لذلك أنا أقول: الذين لا يريدون الآن أن يتحدثوا عن تجميع الأمة وتوحيدها في الاجتهاد والاستنباط في الأفكار يحاولون في الحقيقة عبثا. أحد الأشخاص، (وهو د. مصطفى محمد الشكعة) كتب عن (إسلام بلا مذاهب)، هؤلاء الذين كتبوا عن الإسلام بلا مذاهب ينتهون إلى إسلام بكل المذاهب، لأن المذاهب ليست أقوالا اجتهادية معينة، المذاهب هي مجموعات اجتهادية، حينما تريد أن تتحدث عن مجموعة اجتهادية معينة فإن من الطبيعي أن تكون لها تلك النتائج الفقهية المعروفة.

حينما يتحدث (عدد من) طلاب العلم وبعض قراء العلم الذين لم يطلبوه من الشيوخ وإنما قرأوه، حينما يتحدثون عن هذا الأمر في الأمة الإسلامية، يتصورون أن بالإمكان تنميط الأمة، وأن لا يبقى هناك أي توجه وأي مدرسة وأن ذلك كله يجب أن يتوحد. لذلك قد تسأل الإنسان ما هو مذهبك؟ يقول أنا ليس لي مذهب، مذهبي الكتاب والسنة، وهل هناك من يقول غير هذا؟ هل هناك من يقول بأن لي مذهبا غير الكتاب والسنة؟.

لكنني لا أسألك في العموميات، أسألك في خصوصيات ما تقول.. وأقول لك ما قولك في خبر الآحاد، أتخصص به العموم أم لا ؟ فيقول: لا أعرف هذا الكلام. قلت: إذا أنت خارج الساحة. لأن هذا الكلام جميل جدا ولا أحد يتصور أن عالما يرضى أن يكون مذهبه مؤسسا على غير الكتاب والسنة، ولكن ليس الأمر هاهنا، الأمر في التعامل بناء على هذه الأصول.

نماذج من الاجتهادات وفق الأصول: سأذكر لكم مثلا أصلا واحدا، هناك أشياء -كما ذكر ابن السيد البطليوسي- أوجبت الاختلاف، فالاختلاف لم يكن بالتشهي، لم يكن شيئا تقتنصه الأمة وتفتعله. مثال ذلك العموم في القرآن الكريم؛ الآية التي تأتي عامة فإنها تدل على كل أفرادها لكن القرآن قطعي في ثبوته، قطعي في دلالته على الفرد في العموم، لكن هل القرآن قطعي في دلالته على جميع أفراده أم لا؟ معناه: لفظ العام هو لفظ يستغرق الصالح بغير حصر، فاللفظ العام (المومنون) كل الناس مشمولون بهذا الاسم ،كل من توفر له شرط الإيمان فهو من المؤمنين بلا حصر، كل من صلح له ينضوي تحت هذا المعنى، هذا حديث جميل لكن دلالة هذا العام على أفراده هل هي قطعية أم ظنية؟ بعض الناس لم يطرح هذا السؤال أصلا وهو جزء من الخلاف الفقهي.

أبو حنيفة يقول إن هذا العام دال على كل أفراده دلالة قطعية، وبالتالي فخبر الآحاد عنده لا يرقى ولا يسمو إلى أن يخصص العموم في القرآن الكريم، القرآن عنده عام وقطعي في دلالته، لكن لا يخصص إلا بآية أخرى أو بحديث متواتر. أما الإمام مالك فيرى أن العام يدل على أفراده دلالة ظنية، ولكن مع ذلك لم يكن يخصص بكل حديث آحادي.

في المقابل كان هناك أناس يرون أن كل حديث آحادي صالح لأن يخصص العموم في القرآن، كمْ من مذهب في هذا؟ ثلاثة مذاهب وهذا أمر طبيعي، ثلاثة توجهات؛ فأما الذي قال بأن القطعي لا يخصص بالآحادي، وهو أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فله بسبب هذا فتاوى خاصة، فهو مثلا لا يمكن أن يستثني الخضراوات من الزكاة، – وهناك حديث “ليس في الخضراوات صدقة”، وهو موجود في مجمع الزوائد-، لا يمكن ذلك نظرا للعموم في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ }(البقرة : 267). أي من كل ما أخرجنا لكم من الأرض، هل تستطيع أن تخصص أو تستثني؟ فأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هذا الحديث لا يستثني، فتبقى الخضراوات مشمولة بالزكاة، فالحديث آحاد لا يرقى إلى ذلك. أما الإمام مالك فلم يكن ممن يخصص العموم بكل حديث، بل كان يخصصه إذا تقوّى، يخصص القرآن بالحديث الآحاد لكن بشرط أن يتقوَّى الحديث بغيره. ومقويات الحديث الآحاد كما ذكرها القرافي هي خمسة عشر نوعا، ومن أهم وأبرز ما كان مالك يستند إليه ويعتمد عليه عمل أهل المدينة، ويعتبره مساندا للحديث، إذن فالحديث ظني في أصله ولا يرقى إلى درجة القطعية، فحينما ينضاف إليه وينضم إليه عمل أهل المدينة يتقوَّى.

وهذا السبب هو الذي يجعلنا نفهم لماذا يخصص مالك مثلا العموم مرة ولا يخصصه مرة أخرى، كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام : 145). فالمحرمات في الآية أربعة، فهي عامة، إذن فلا تطلب محرمات أخرى بعد هذه الآية إلا هذه الأشياء، ولكن عندنا أحاديث نأخذ بها، حديث فيه شقان وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم “نهى عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير”، وخصص مالك بحديث ولم يخصص بآخر؛ أما كل ذي مخلب من الطير فإنه تعامل معه على أساس أن عمل أهل المدينة لم يسنده، ولذلك بقي غير معمول به، أما ذو الناب من السباع فإن كل ذي ناب من السباع من الحيوانات المفترسة هو محرم ويخصص العموم في قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}، إذا فمرة خصص ومرة لم يخصص. هذه صناعة، فالفتوى صناعة، هل تقول لمالك حينما لم يخصص بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي مخلب من الطير، وأجاز الطير مطلقا تقريبا، ولو اختلف قوله في الهدهد والسرد وخصص بذي الناب من السباع، وبأن سباع الطير هي التي لا تؤكل، هل نعتبر بأنه عطّل الحديث أو أنه لم يعمل به؟؟ إذن هذا الأمر هو الذي ينسجم مع مذهبه في الموضوع، فلو أردنا أن نتقصَّى هذا الأمر في كل الخلافات الفقهية لوجدنا أن الفقهاء لم يكونوا يتعمدون الخلاف أو النشوز أو الشذوذ، وإنما كانوا يخضعون لمنهج أصولي وذلك المنهج هو الذي كان يقودهم إلى ما قضوا به. وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أ. د. مصطفى بن حمزة
————
(ü) من المحاضرات التي ألقاها العلامة د. مصطفى بن حمزة بمسجد البعث الإسلامي بمدينة وجدة. أعدها للنشر الأستاذ امحمد رحماني.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>