الجرح والتعديل علم من علوم الحديث أو نوع منها، وقد بلغ عددها عند ابن الصلاح في علوم الحديث خمسة وستين نوعاً، أولها الصحيح وآخرها معرفة أوطان الرواة وبلدانهم(1). فما هو الجرح والتعديل؟ وما مشروعية هذا العلم؟ وما أهميته؟ ومتى ظهر؟ ومتى بدأ التدوين فيه؟ ما هي ضوابط الجرح والتعديل؟ وما هي مراتبهما؟ وما الحكم إذا اجتمعا في راو واحد؟ وما هي أهم مصادر هذا العلم؟ 1- الجرح والتعديل لغة واصطلاحاً: لغة: جَرح يجرَح جُرحاً، بالضم(2) من باب نفع، الاسم، وجرحه بلسانه جَرحا بالفتح عابه وتنقّصه(3). ومنه جرحت الشاهد، إذا أظهرت فيه ما ترد به شهادته. واصطلاحاً: هو ظهور وصف في الراوي يثلم عدالته، أو يخل بحفظه وضبطه، مما يترتب عليه سقوط روايته، أو ضعفها وردها. والتجريح: هو وصف الراوي بصفات تقتضي تضعيف روايته، أو عدم قبولها(4). والعدل لغة هو القصد في الأمور، وهو خلاف الجور، وعدَّل الشيء تعديلاً: سوّاه، وعدّلت الشاهدَ: نسبته إلى العدالة ووصفته بها، والإنسان العدل: المرضِيُّ، يقنَع به ويُوثق(5)، قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}(الطلاق: 2). واصطلاحاَ: هو عدم ظهور ما يخل بدين الراوي ومروءته، فيقبل لذلك خبرُه وشهادتُه إذا توفرت فيه بقية الشروط اللازمة في أهلية الأداء(6). أما التعديل فهو وصف الراوي بصفاتٍ تزكيه، فتُظهر عدالتَه ويُقبل خبرُه. وعلى هذا، فعلم الجرح والتعديل هو العلم الذي يبحث في أحوال الرواة من حيث قبولُ روايتهم أو ردُّها(7). 2- مشروعيته: علم الجرح والتعديل ميزان رجال الرواية، يشتغل بكفة الراوي فيُقبل، أو تخف موازينه فيُرفض، وبه نعرف الراوي الذي يقبل حديثه ونميزه عمن لا يقبل حديثه. ومن هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، وبذلوا فيه أقصى الجهد، وانعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه، للحاجة الملجئة إليه، قال أبو بكر بن خلاد ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله؟ فقال: لأن يكونوا خصمائي أحبُّ إلي من يكون خصمي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لمَ لم تذب الكذب عن حديثي؟ 3- أهمية علم الجرح والتعديل: لولا ما بذله النقاد الأئمة في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم، حتى رحلوا في سبيل ذلك، وتكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين والضعفاء المخلطين، لاشتبه أمر الإسلام واستولت الزنادقة والدجالون. كان الأئمة النقاد ينقدون الرواة حسبة لله تعالى، لا تأخذهم خشية أحد، ولا تتملكهم عاطفة، فليس أحد من رواة الحديث ورجاله يحابي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه ولا أخاه ولا ولده، وقد قصد الجميع خدمة الشريعة وحفظ مصادرها، فصدقوا القول وأخلصوا النية، سُئل شعبة بن الحجاج عن حديث حكيم بن جبير، فقال: أخاف النار، وكان شعبة شديداً على الكذابين حتى قال فيه الإمام الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وسأل قوم علياً بن المديني عن أبيه، فقال: سلوا عنه غيري، فأعادوا عليه المسألة، فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: هو الدين، إنه ضعيف(8). 4- متى ظهر هذا العلم ومتى بدأ التدوين فيه؟ نشأ علم الجرح والتعديل مع نشأة الرواية في الإسلام، إذ كان لا بد ـ لمعرفة الأخبار الصحيحة ـ من معرفة رواتها، معرفة تمكن أهل العلم من الحكم بصدقهم أو كذبهم، وبتمييز المقبول من المردود. لذلك سألوا عن الرواة، وتتبعوهم في جميع أحوال حياتهم العلمية وغيرها، وبحثوا أشد البحث حتى ميزوا الأحفظ من الحافظ، والأضبط من الضابط، والأكثر مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة(9). وقد ظهر علم الجرح والتعديل بدءاً من عهد الرسالة، وعهد الصحابة، إلى عهد التابعين وتابعيهم، وتوالى البحث فيه حتى اتسع وصار علماً مميزاً. وممن اشتهروا بالبحث في الرجال: عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وشعبة بن الحجاج ، ومالك، ثم يحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن مخل. غير أن التدوين في هذا العلم لم يظهر إلا مع ظهور التدوين في الأمة وكان أول تلك المصنفات للإمام يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل. ثم توالى ظهور التصانيف المبسوطة، التي تضم أكثر أقوال أئمة الجرح والتعديل في أكبر عدد من الرواة(10) مثل الإمام البخاري، في تاريخه، والأئمة لأبي حاتم الرازي، وأبي زرعة، وأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب كتاب الجرح والتعديل. 5- ما هي ضوابط المجرِّح والمعدِّل؟ يشترط في المجرِّح والمعدّل شروط وضوابط منها: 1- العلم والتقوى والورع والصدق: قال الحافظ ابن حجر: ينبغي ألا يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ. 2- أن يكون عالماً بأسباب الجرح والتعديل. 3- أن يكون عارفاً بتصاريف كلام العرب، لا يضع اللفظ لغير معناه، ولا يجرح بلفظ غير جارح. 4- تقبل تزكية كل عدلٍ وجَرحُه، ذكراً كان أو أنثى حراً كان أو عبداً. 5- يكفي أن يكون المجُرّح أو المعدِّل واحداً لكي يَثبُت الجرح والتعديل، إذا استوفى شروط الجارح والمعدِّل. وقيل لا يثبُت الجرح والتعديل إلا باثنين كما في الشهادة، والأكثر على الاكتفاء بواحد. 6- مراتب التجريح والتعديل: أ- مراتب التجريح: 1 ـ تكون بكل ما يدل على المبالغة في الجرح مثل: أكذب الناس، ورُكن الكذب. 2 ـ تكون بالجرح بالكذب أو بالوضع نحو: كذاب، وضاع، فهي دون المرتبة الأولى. 3 ـ تكون بكل ما يدل على اتهامه بالكذب والوضع نحو: متهم بالكذب، أو الوضع، أو يسرق الحديث، ونحو: هالك، متروك، ليس بثقة. 4 ـ تكون بكل ما يدل على ضعفه الشديد نحو: رُدَّ حديثه، ضعيف جداً، ليس بشيء، لا يكتب حديثه. 5 ـ فيها كل ما يدل على تضعيف الراوي أو اضطرابه في الحفظ، كمضطرب الحديث، أو لا يحتج به، أو ضعَّفوه، أو ضعيف، أو له مناكير. 6 ـ تكون بوصف الراوي بوصف يدل على ضعفه، ولكنه قريب من التعديل، نحو ليس بذاك القوي، وفيه مقال، وليس بحجة، وفيه ضعف، وغيره أوثق منه. ولا يحتج بالمراتب الأربعة الأولى. ب ـ مراتب التعديل: 1 ـ تكون بكل ما يدل على المبالغة بصيغة (أفعل) التفضيل، مثل: أوثق الناس، أضبط الناس، ليس له نظير. 2 ـ كأن يقال: فلان لا يسأل عنه، أو عن مثله. 3 ـ تكون بما يؤكد توثيقه بصفة من الصفات الدالة على العدالة والتوثيق سواء باللفظ أو بالمعنى مثل: ثقة ثقة، ثقة مأمون، ثقة حافظ. 4 ـ تكون بما يدل على العدالة بلفظ يُشعر بالضبط مثل: ثَبْتٌ، متقن، حجة إمام، عدل حافظ، عدل ضابط. 5 ـ تكون بكل لفظ يدل على التعديل والتوثيق بما لا يُشعر بالضبط والإتقان، نحو: صدوق، مأمون، لا بأس به، ثم تليها: مَحلُّه الصدق، صالح الحديث. 6 ـ تكون بكل ما يشعر من قربه من التجريح نحو: شيخ، ليس ببعيد من الصواب، وصُوُيلِح، وصدوق إن شاء الله(11). 7- اجتمـاع الجـرح والتعديـل فـي راو واحــد: قد تتعارض أقوال العلماء في تعديل راوٍ وتجريحه، فيُجرحه بعضهم، ويعدِّله آخرون، وحينئذ لا بد من البحث لمعرفة حقيقة ذلك. فقد يكون بعضهم عرفه بفسق قديم وقع منه فجرَّحه، ثم تاب فعلمت توبته لمن عدَّله، فلا يكون هناك تعارض بين القولين. وقد يعرف بسوء حفظِ عن شيخ لم يكتب عنه، لاعتماده على ذاكرته، في حين أنه موثوق به، حافظ عن غير هذا الشيخ، لاعتماده على كتب مثلا، فلا يكون هناك تعارض الجرح وهذا التوثيق. فإذا عُرف كل ذلك أمكن للعالم أن يخلص مَخلصاً حسناً، فيرجح بعض الأقوال على بعض، وإذا لم يعلم تفصيل ما ذُكر، كان هناك تعارض بين الجرح والتعديل، وللعلماء في هذه الحال ثلاثة أقوال: الأول: تقديم الجرح على التعديل، ولو كان المعدِّلون أكثر من الجارحين، لأن الجارح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدِّل، وهذا قول جمهور أهل العلم، ومن القواعد في الباب: “درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة”. الثاني: يقدم التعديل على الجرح، إذا كان المعدّلون أكثر من الجارحين، لأن كثرة المعدّلين تُقوِّي قولهم. وهذا القول مردود، لأن المعدّلين وإن كثروا لا يخبِرون بما يَرُدّ على الجارحين. الثالث: أن الجرح والتعديل إذا تعارضا، ولم يمكن الترجيح يُتوقف عن العمل بالقولين معا. والقول الأول هو الذي ذهب إليه المحدِّثون المتقدمون والمتأخرون. جــرح الأقــران: إن العلماء ـ لورعهم وتقواهم ـ احتاطوا في تقديم الجرح على التعديل، فيما دار بين الأقران، من قدح، أو خلاف مذهبي. وأجمع العلماء على عدم قبول قول الأقران بعضهم في بعض، وذلك من باب: “المعاصرة حجاب” أهم مصادر ومراجع هذا العلم: يكفي الطالب النبيه في علم الجرح والتعديل مصدر ومرجع: فالمصدر ككتاب “الجرح والتعديل” للإمام ابن أبي حاتم الرازي، والمرجع نحو” الرفع والتكميل في الجرح والتعديل” للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، بتحقيق د. عبد الفتاح أبو غدة. وفوق كل ذي علم عليم.
د. محمد أبياط
ـــــــــــــــــــ
(ü) عرض قدم في الدورة الصيفية الثانية للعلوم الشرعية نظمها المجلس العلمي المحلي لفاس بتصرف.
1ـ توفي ابن الصلاح 643 هـ، ووافقه في العدد ابن كثير المتوفى 774، في كتابه “الباعث الحثيث”.
2 ـ قال تعالى:{والجروح قصاص}(المائدة 47).
3 ـ ومنه قول الشاعر: جراحات السنان لها التـئـام ولا يلتام ما جرح اللســان
4 ـ أصول الحديث… د. عجاج الخطيب، دار الفكر ط:2، 1971،ص:260.
5 ـ المصباح: عدل،
6 ـ 7 ـ أصول الحديث، د. عجاج الخطيب، 261.
8-9- أصول الحديث، د. عجاج الخطيب، 262.
10 ـ نفس المرجع: 277، 278.
11 ـ نفسه، 75 و76.