سأَتَوَقَّفُ، بإذن الله، في الجزء الثاني من هذا المقال عِنْدَ بَعْضِ النَّماذِجِ التَّصْنيفِيَّةِ التي أُلِّفَتْ في مَوْضوعِ “جَوامِعِ الْكَلِمِ”، في شِقَّيه مَعًا: الْمَوْضوعِيّ والْبَلاغِي، ومنها: 1- كِتابُ “الْمُجْتَنى”(1) لأَبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ (تـ.321)، وهُوَ كِتابٌ جَمَعَ فيهِ صاحِبُهُ أَشْعارًا وحِكَمًا وأَحاديثَ مُنْتَخَبَةً مِمّا سُمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُسْمَعْ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَهُ، واشْتهرَتْ “بِجَوامِعِ الْكَلِمِ” حَتّى ضُرِبَتْ بِكَلِماتِها الأَمْثالُ، فَشَرَحَها ابْنُ دُرَيْدٍ، واسْتَخْرَجَ ما فيها مِنَ الْمَعاني والْحِكَمِ والْمَطالِبِ، وبَيَّنَ نكاتها الأَدَبِيَّةَ وأَسْرارَها الْبَلاغِيَّةَ، وأَتى بِشَواهِدِها مِنْ كَلامِ الشُّعَراءِ والْبُلَغاءِ ومِنْها قَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم: ((لا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزانِ))(2)، و((ماتَ حَتْفَ أَنْفِهِ))(3)، و((حَمِيَ الْوَطيسُ))(4)، و((الْوَلَدُ لِلْفِراشِ و لِلْعاهِرِ الْحَجرُ))… 2- وكِتابُ “الْمَجازات النَّبَوِيَّة”5، لِلشَّريفِ الرَّضِيّ(تـ. 406)، شَرَحَ فيهِ ثَلاثَمائَةٍ وسِتّينَ حَديثًا مِنْ أَوابِدِهِ وجَوامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، واشْتَمَلَ بِذلِكَ عَلى مَجازاتِ الآثارِ الْوارِدَةِ عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَبَيَّنَ ما فيها مِنَ الاسْتِعاراتِ، ولُمَعِ الْبَيانِ، وأَسْرارِ اللُّغَةِ، وتَتَبَّعَ ما في كَلامِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تِلْكَ الْخَصائِصِ. مِنْ هذِهِ الأَحاديثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((هذِهِ مَكَّةُ قَدْ رَمَتْكُمْ بِأَفْلاذِ كَبِدِها)) وفي رِوايَةٍ أُخْرى: ((قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاذَ كَبِدِها)). فَفي الْحَديثِ اسْتِعارَةٌ، ويَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُما أَنْ يَكونَ الْمُرادُ بِأَفْلاذِ الْكَبِدِ صَميمُ قُرَيْشٍ وجَوْهَرُها ومَحْضُها ولُبابُها. والْمَعْنى الثّاني: أَنْ يَكونَ الْمُرادُ بِذلِكَ أَعْيانَ قُرَيْشٍ ورُؤَساءَهُمْ … وفي حَديثٍ آخر: ((تُلْقي الأَرْضُ أَفْلاذَ كَبِدِها))، أَيْ ما في بَطْنِها مِنَ الْكُنوزِ والْمَعادِنِ، فَاسْتَعارَ لَها الْكَبِدَ، وكَبِدُ كُلِّ شَيْءٍ: وَسَطُهُ، و مِنْهُ حَديثُ: في كَبِدِ جَبَلٍ، أَيْ في جَوْفِهِ مِنْ كَهْفٍ أَوْ شِعْبٍ . ومِنْ هذِهِ الأَحاديثِ، قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَبَلِ أُحُد: ((هذا جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ)) ورُوِيَ في صِفةِ الخَيْلِ رِواياتٌ مِنْها ما لا وُجودَ لَه في كُتُبِ النَّحْوِ المَشْهورَةِ مِثْل: ((ظُهورُها حِرْزٌ وبُطونُها كَنْزٌ))، وهُوَ خارِجٌ عَلى طَريقِ الْمَجازِ؛ لأَنَّ بُطونَ الْخَيْلِ لَيْسَتْ بِكَنْزٍ، وَإِنَّما أُريدَ أَنَّ أَصْحابَها ينْتجونَها مِنَ الأَفْلاءِ ما تنمى بِها أَمْوالهُمْ وتَحْسُنُ مَعَهُ أَحْوالُهُمْ، فَهُمْ بِاسْتيداعِ بُطونِها نُطَفَ الْفُحولَةِ كَمَنْ كَنزَ كَنْزًا إِذا أَرادَهُ وَجَدَهُ، وإِذا لَجَأَ إِلَيْهِ دَعَمَ ظَهْرَهُ، كَما يَكونُ الْكانِزُ عِنْدَ الرُّجوعِ إِلى كَنْزِهِ، أَمّا كَوْنُ ظُهورِها حِرْزًا فَإِنَّ الْمُرادَ أَنَّها مَنْجاةٌ مِنَ الْمَعاطِبِ، ومَلْجَأَةٌ عِنْدَ الْمَهارِبِ. وقَدْ أَوْرَدَ الشَّريفُ الرَّضِيُّ هذِهِ “الأَحاديثَ” مِنْ غَيْرِ تَرْتيبٍ ولا إِسْنادٍ، بَلْ بِحَسَبِ ما وَقَعَ لَهُ في اطِّلاعِهِ عَلى مَراجِعِهِ. ومَنْهَجُهُ في كِتابِهِ أَنْ يورِدَ الْحَديثَ، ويعقبَهُ بِبَيانِ مَواطِنِ الْمَجازِ فيهِ أَوِ اللَّوْنِ الْبَيانِيِّ الْوارِدِ، و يَذْكُرَ ما يَسْتَدْعي الذِّكْرَ مِنَ الْمُناسَبَةِ التي وَرَدَ فيها، ويُبَيِّنَ الْوَجْهَ الذي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْمَعْنى أَوِ الْمَعْنَيانِ الْمُحْتَمَلانِ؛ لأَنَّ الْحَديثَ الْجامِعَ حَمّالُ أَوْجُهٍ و صُوَرٍ. 3- و منها كِتابُ “الإعْجاز والإيجاز” لأبي مَنْصورٍ عبدِ الملكِ بْنِ محمّدٍ الثّعالبِيّ (ت.429)، و هو كِتابٌ أوردَ فيه صاحبُه نماذجَ عاليةً من القرآنِ الكريمِ، والحديثِ النّبويِّ، وكلامِ الصّحابةِ، وملوكِ الجاهليّةِ والإسلامِ، وأهلِ السّياسةِ وفنِّ الكِتابةِ والفلسفةِ، في الفصاحةِ وجَمْعِ الكَلِمِ. وجاءَ الكتابُ في عشرةِ أبوابٍ، وخصِّصَ البابُ الثّاني منها لجَوامِعِ الكَلِمِ النّبويّةِ، جاءَ هذا في خمسةِ فُصولٍ صُنِّفت فيها جوامعُ الكلِمِ بحسبِ النّوعِ البلاغيِّ الذي تنتسِبُ إليهِ: فالفصْلُ الأوّلُ في تشبيهاتِ الحديثِ وتمثيلاتِهِ، والثّاني في اسْتِعاراتِه، والثّالثُ في مطابقاتِه، والرّابِعُ في التّجْنيسِ، والخامسُ في سائرِ أمثالِه وروائعِ أقوالِه وأحاسنِ حِكَمِه في جَوامِعِ كَلِمِه. و لكنّ الثّعالبيَّ اقتصَرَ في الكِتابِ كلِّه على إيرادِ هذه النّماذِجِ البلاغيّةِ العاليةِ منْ دونِ شرْحٍ لَها أو تَفْسيرٍ أو تَعْليقٍ، أو بيانٍ لِمَواطِنِ الجَمالِ والإيجازِ، أو وضْعِ اليدِ على مواضعِ الاسْتدْلالِ بِها، واكْتفى بتوزيعِها على أبوابٍ بلاغيّةٍ… 4- أَمّا الْكِتابُ الرّابِعُ فَهُوَ كِتابُ “الإِشارَة إِلى الإيجازِ في بَعْضِ أَنْواعِ الْمَجازِ”6 لأَبي مُحَمَّدٍ عِزِّ الدّينِ عَبْدِ الْعَزيزِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ الشّافِعِيِّ (ت.660) ، وهُوَ كِتابٌ أَوْرَدَ فيهِ صاحِبُهُ أَوْجُهًا بَلاغِيَّةً مِنَ الْحَذْفِ والْمَجازِ وغَيْرِهِما، مُنْطَلِقًا فيهِ مِنْ صِفَةِ “جَوامِعِ الْكَلِمِ” في حَديثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَنَّ الْحَديثَ اخْتُصِرَ لَهُ اخْتِصارًا لِيَكونَ أَسْرَعَ إِلى فَهْمِ الْفاهِمينَ، و ضَبْطِ الضّابِطينَ، و تَناوُلِ الْمُتَناوِلينَ، وأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَسيرَةٍ جَمَعَتْ مَعانِيَ كَثيرَةً فَهِيَ مِنْ “جَوامِعِ الْكَلِمِ”. وعَرَّفَ الاخْتِصارَ بِأَنَّهُ الاقْتِصارُ عَلى ما يَدُلُّ عَلى الْغَرَضِ، مَعَ حَذْفٍ أَوْ إِضْمارٍ، وفائِدَةُ الْحَذْفِ تَقْليلُ الْكَلامِ وتَقْريبُ مَعانيهِ إِلى الأَفْهامِ. ومِنْ بَلاغَةِ الْحَذْفِ حَذْفُ الْمُضافاتِ، نَحْوَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ)) أَيْ لا يَحِلُّ أَخْذُ الصَّدَقَةِ أَوْ تَناوُلُ الصَّدَقَةِ… وما يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلى حَذْفِهِ والْمَقْصودُ الأَظْهَرُ عَلى تَعْيينِهِ، نَحْو قَوْلِهِ تَعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}( المائدة : 3)، أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُها؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلى الْحَذْفِ؛ إِذْ لا يَصِحُّ تَحْريمُ الْفِعْلِ حَتّى يَكونَ الْفِعْلُ مَقْدورًا عَلَيْهِ لأَنَّهُ شَرْطُ التَّكْليفِ. وما يدُلُّ عَلى حَذْفِهِ الْوُقوعُ، نَحْو قَوْلِهِ تَعالى: {وما أَفاءَ اللهُ على رَسولِهِ مِنْهُم}(الْحَشْر : 6)، وما يدُلُّ الْعَقْلُ عَلى حَذْفِهِ والْعادَةُ عَلى تَعْيينِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: {فَذَلِكُنَّ الذي لُمْتُنَّني فيه}(يوسُف : 32)، دَلَّ الْعَقْلُ عَلى الْحَذْفِ؛ لأَنَّ اللَّوْمَ عَلى الأَعْيانِ لا يَصِحُّ، وإِنَّما يُلامُ الإِنْسانُ عَلى كَسْبِهِ وفِعْلِهِ كَالْحُبِّ أَوِ الْمُراوَدَةِ… وما يَدُلُّ السِّياقُ عَلى حَذْفِهِ نَحْو قَوْلِهِ تَعالى: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا}(المائدة:17)، أَيْ مِنْ دَفْعِ مُرادِ اللهِ … وما يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلى حَذْفِهِ وتَعْيينِهِ، نَحْو قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم في الْحَديثِ الْقُدْسِيِّ: ((مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني، واسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْني، واسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِني)) فيُحْمَلُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْديرُهُ: “مَرِضَ عَبْدي فَلَمْ تَعُدْهُ واسْتَطْعَمَكَ عَبْدي فَلَمْ تُطْعِمْهُ”… وقَدْ نَبَّهَ عَلى أَنَّ حَذْفَ الْمُضافِ لَيْسَ مِنَ الْمَجازِ؛ لأَنَّ الْمَجازَ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ في غَيْرِ ما وُضِعَ لَهُ، والْكَلِمَةُ الْمَحْذوفَةُ لَيْسَتْ كَذلِكَ، وإِنَّما التَّجَوُّزُ في أَنْ يُنْسَبَ إِلى الْمُضافِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: {واسْأَلِ الْقَرْيَةَ}(يوسف : 82)؛ فَنِسْبَةُ السُّؤالِ إِلى الْقَرْيَةِ هُوَ التَّجَوُّزُ؛ لأَنَّ السُّؤالَ مَوْضوعٌ لِمَنْ يَفْهَمُهُ، واسْتِعْمالهُ في الْجَماداتِ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
د. عبد الرحمن بودراع
——–
1- تَحْقيق و إِخْراج : السّيّد هاشِم النَّدَوِيّ ، ط/ مَجْلِس دائِرَةِ الْمَعارِفِ النِّظامِيَّةِ بِحيدَر آباد الدّكن، 1342هـ وطُبِعَ الْكِتابُ طَبْعَةً ثانِيَةً بِدارِ الْفِكْرِ بِدِمَشْق سَنَةَ 1402-1982 ، ضَبَطَهُ وصَحَّحَهُ و عَلَّقَ بَعْضَ حَواشيهِ : مُحَمَّد الدّالي.
2- قالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في عَصْماءَ بِنْتِ مَرْوان الْيَهودِيَّةِ، بعد أن قتلها رجل من الأنصار، وكانَتْ تَهْجو رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتُؤْذيهِ، فَخَصَّ الْعَنْزيْنِ دونَ الْغَنَمِ؛ لأَنَّ الْعَنزَ تشامُّ الْعَنزَ ثُمَّ تُفارِقُها، ولَيْسَ كَنِطاحِ الْكِباشِ… (المُجْتَنى: 12-13).
3- ومَعْنى “حَتْفَ أَنْفِهِ” أَنَّ روحَهُ تَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ بِتَتابُعِ نَفَسِهِ؛ لأَنَّ الْمَيِّتَ عَلى فِراشِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ يَتَنَفَّسُ حَتّى يَقْضِيَ رَمَقهُ، فَخصَّ الأَنْف بِذلِكَ؛ لأَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ يَتَقَضّى رَمَقه. (المُجْتَنى: 13)
4- قالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ لَمّا جالَ الْمُسْلِمونَ ثُمَّ ثابوا .. والْوَطيسُ حفيرَةٌ تُحْفَرُ في الأَرْضِ شَبيهَةٌ بِالتَّنّورِ يُخْتَبَزُ فيها، و الْجَمْعُ وُطسٌ (المُجْتَنى: 13-14).
5- بِتَحْقيقِ و تَعْليقِ وضَبْطِ: مَحْمود مُصْطَفى، مَط/ مُصْطَفى البابي الْحَلَبِي و أَوْلاده بِمِصْرَ ، 1356-1937.
6- طُبِعَ بِدارِ الطِّباعَةِ الْعامِرَةِ بِمِصْرَ في رمضان 1313هـ .