مفهوم “التنمية” في ضوء القرآن الكريم والحديث الشريف 2


في الحلقة السابقة تناول الكاتب مفهوم التنمية في التعريفات السائدة وبين ما فيها من إيجابيات وما فيها من سلبيات، وفي هذا الجزء يواصل تقديم مفهوم التنمية البشرية وأسسه في التصور الإسلامي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية

1- أن الإنسان محور في عملية التنمية؛ وهذا الاعتبار تابع لمحورية الإنسان في الكون عموما وخصوصيته من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} (العلق : 2 -1)، وقال الله تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن 4 -1)، وقال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء…}(البقرة 22 -21). وهذا الضابط المهم يستلزم أن تكون كل مشاريع التنمية تصب في المصالح الحقيقية للإنسان أي عموم الإنسان، وليس في المصالح المتوهمة، أو المصالح الخاصة للجشعين. ومعلوم أن الشريعة قد حددت المصالح ووضعت لها ضوابط أخلاقية وتشريعية ضمن الكليات الخمس المعروفة: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ولا شك أن من شأن هذه الضوابط أن تقي الإنسان كثيرا من مفاسد التنمية كما هي سائدة في التفكير الغربي، كالنمط الاستهلاكي الذي أدخل العباد في دوامة لا تقف. فهذا من جهة، ومن جهة أخرى فنحن حين نقول بكون الإنسان محور التنمية، فنحن نقصد أن كثيرا من الجهد في التربية والتعليم والتكوين ينبغي أن ينصب في تكوين جيل من الموارد البشرية الأقوياء الأمناء الذين يستطيعون الإسهام بأفكارهم وجهودهم في تحريك التنمية في الاتجاه الصحيح النافع. {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم…} (يوسف 55)، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة 151) القوة والأمانة والحفظ والعلم وغيرها من أخلاق الإسلام العظيمة ومبادئه المتينة هي العناصر الأساسية في التنمية البشرية أولا ثم في التنمية الشاملة بصفة عامة.

2- أن الإنسان مستخلف في هذا الكون مستأمن عليه: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها…} (الأعراف 56). ويتأسس على ذلك أن التصرف في هذه المخلوقات ينبغي أن يكون وفقا لمقاصد الهدى المنزل. قال الله تعالى {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض…} (الفرقان 6)؛ وأن التصرف في غياب تلك المقاصد والضوابط هو تصرف شيطاني مفسد لفطرة الخلق، {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله..}(النساء : 119) ومعنى هذا أن مشاريع التنمية ينبغي أن تراعي كل حقوق هذه المخلوقات، وهي ما يعبر عنها بالبيئة، أي كل ما يحيط بالإنسان من أشياء وأحياء في البر والبحر والجو. وها هي المنظمات الدولية تصرخ وتنادي وتحذر من الدمار المهدد للحياة البشرية جملة إذا لم تعد النظر في مفهوم التنمية.

3- أن مفهوم التنمية في إطار منظومة المفاهيم الإسلامية، ينبغي أن يعكس خصوصية الذات الحضارية للأمة، أي أن مفهوم التنمية لا ينفصل مثلا عن مفهوم الغيب وما يتصل به من المفاهيم كالتقوى والاستغفار والبركة والرزق وغيرها مما يعتبره الذين لا يفقهون مجرد مفاهيم أخلاقية لا علاقة لها بالواقع. دعك من أولئك واستمع: – {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت : 9- 10) – {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف : 96) – {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويعجل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا..} (نوح : 11) فما قولكم في هذا المفهوم: البركة؟ فهي بركات مودعة في الثروات مذ خلق الله الأرض، وهي بركات يفتحها الله جل جلاله متى شاء. {ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنفاقين لا يفقهون}(المنافقون : 8). والبركة كما تدل على ثبوت الخير تدل على تكاثر الشيء من ذاته وتزايده. وقد ثبت في الصحيح وَعَن أبي كبشةَ الأنماريِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ فَأَمَّا الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّهُ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ..))(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيح).

4- أن التنمية انطلاقا من المفهوم الغربي تكتسي طابع الاقتراح المتحكم الذي يفرض على الدول النامية تصوره الخاص لبرامج التنمية. ويتعارض مع مفهوم التنمية في دلالته اللغوية البحتة، فإن من طبيعة النمو أنه يكون منسجما مع البيئة التي يتم فيها ويستلزم رصيدا تاريخيا وتراكما في عدد من العناصر. يقول الدكتور محمد نصر عارف: “النماء يعني أن الشيء يزيد حالاً بعد حال من نفسه، لا بالإضافة إليه. وطبقًا لهذه الدلالات لمفهوم التنمية فإنه لا يعدّ مطابقًا للمفهوم الإنجليزي Development الذي يعني التغيير الجذري للنظام القائم واستبداله بنظام آخر أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق الأهداف وذلك وفق رؤية المخطط الاقتصادي (الخارجي غالباً) وليس وفق رؤية جماهير الشعب وثقافتها ومصالحها الوطنية بالضرورة” اهـ. إن أول شرط في التنمية كما ينبغي أن تكون، هو أن يتحقق في ذات الأمة أفرادا وجماعات، وأحزابا ومؤسسات، إرادة حقيقية للنهوض انطلاقا من رصيدنا القيمي والحضاري والتاريخي، وإن فيه حقا ويقينا لثراءً وغناء َيبهر الألباب، وتلك آثاره شاهدة. صحيح أن التنمية بهذا الشكل ليست عملية سهلة؛ بل هي عملية معقدة وتحتاج إلى جهود وجهود وأوقات وأوقات؛ ولكن الأمة مؤهلة بحمد الله تعالى لذلك فهي أمة الشهادة، الأمة الوسط. فالله تعالى يقول: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران : 110)، فهي أمة لم تخرج من تلقاء نفسها، بل أُخرِجت! هكذا فعلا متعديا! والمُخرج لها هنا هو الله جل جلاله. ثم إنها ليست أمة أخرجت وحسب، بل هي خير أمة أخرجت للناس، ذلك بأنها أمة الشهادة على الناس كل الناس! {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}(البقرة : 143). فهذا هو أصل نشأة هذه الأمة: إخراجٌ وجعلٌ وخيريةٌ وشهادةٌ على الناس!! وإن الله تعالى لا يترك هذه الأمة وحدها بل يرعاها كما تقتضي حكمته وقدرته جل جلاله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)).

د. مصطفى فوضيل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>