مع كتاب الله عز وجل – من معاني القصد والاقتصاد في القرآن الكريم


يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اَصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(فاطر : 32). هذه الآية الكريمة من الآيات التي اختلف المفسرون في معناها، حيث قال بعضهم إن المقصود بالظالم فيها هو الكافر، وقال آخرون إن الظالم والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم من المؤمنين الذين اصطفاهم الله كما جاء قبل ذكرهم في الآية السابقة، وهم كلهم من أهل الجنة كما ذكر بعد في الآيات اللاحقة. وبناء على هذا الرأي الثاني يكون “الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: مَنْ يُقَصِّرُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَلَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْفَضَائِلِ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّكَمُّلِ بِالْفَضَائِلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأَدُّبِ وَالتَّأْدِيبِ، حَتَّى يَكُونَ إِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ وَالصِّدِّيقِينِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَةُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ”(1). وللوقوف على أصل هذا الرأي الثاني الذي رجحه معظم المفسرين، لا بد من معرفة العلاقة بين المصطلحات الثلاثة ومعانيها في اللغة وفي باقي استعمالات القرآن الكريم لها. وسأخص منها مصطلح المقتصد بحكم توسطه للظالم والسابق بالخيرات، ومصطلح الظلم لتردد معناه بين الكفر وما دونه من مخالفة. فمن حيث اللغة: “القصد استقامة الطريق، يقال : قصدتُ قصدَه أي نحوت نحوه، ومنه الاقتصاد”(2) “وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُقْتَصِدُ عَلَى الَّذِي يَتَوَسَّطُ حَالُهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَضِدِّهِ”(3)، “والقَصْدُ في المعيشة ألا تسرف ولا تقتر. والقَصيدُ: ما تم شطرا أبنيته من الشعر”(4). أما في الاستعمال القرآني، فقد استعمل القرآن الكريم من مادة قصد خمسة مشتقات هي: اقصد، قصد، قاصدا، مقتصد، مقتصدة، وردت في ست آيات هي، إضافة إلى آية سورة فاطر السابقة: > {وَلَوْ اَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَو اَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْاِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة : 66-65). > {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة : 42). > {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(النحل : 9). > {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(لقمان : 19). > {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور}(لقمان : 32). من هذه الآيات الكريمة يتضح أن المقتصد يستعمل غالبا في مقابل الكافر والفاعل للسوء، كما أنه يستعمل بمعنى التوسط بين أمرين كما هو الشأن في وصية لقمان لابنه بالتوسط في مشيه بين حال المتكبر وحال المستعجل، كما يستعمل بمعنى إصابة المبتغى والهدف الذي يكون بتوفيق من الله تعالى كما في قوله سبحانه: “وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(النحل : 9). أما مصطلح الظلم فيدور معناه اللغوي على مجاوزة الحد؛ فإن كان بين العبد والخالق فهو شرك أو كفر أو نفاق، وإن كان بين الإنسان وأخيه الإنسان فهو فعل ما ينافي مقتضى العدل والإنصاف، وإن كان بين العبد ونفسه فهو تعريضها لغضب الله وحرمانها من رضوانه وسعادة التقرب إليه، ويظهر أن الآية محل الدرس تحمل هذا المعنى الأخير لاقتران الظلم بالنفس حيث يقول سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}. على ضوء ما سبق؛ فإن الظالم في آية سورة فاطر هو مرتبة من مراتب المسلمين، ويكون بمعنى العاصي كما سبق، بينما المقتصد هو من يتوسط بين الظالم والسابق للخيرات، وذلك بالاقتصار على فعل الواجبات دون النوافل والمستحبات، ولذلك توسطهما موضعا كما توسطهما من حيث المعنى، والله تعالى أعلم.

دة. كلثوم