شرح الأربعين الأدبية(29) في إنشاد الشعر في الحرم خلال العمرة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم


روى الترمذي ((عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيلهِ اليومَ نَضْرِبْكُمْ على تنزيلهِ ضربا يُزيل الهامَ عن مَقيلهِ ويذهل الخليل عن خليلـهِ فقال له عمر: يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل)).(1) مدار هذا النص على أربعة محاور: أولها المناسبة، وثانيها إنشاد الشعر، وثالثها الاعتراض، ورابعها الجواب النبوي.
أما المناسبة فهي دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، وقد كانت في ذي العقدة سنة سبْع من الهجرة. وأما إنشاد الشعر فقد كان من لدن عبد الله بن رواحة، وليس أي إنشاد)) بل هو أولا بمكة، وثانيا بالحرم، وثالثا في العمرة، ورابعا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أمام إنشاد قد حصل بمكانين لهما خصوصيتهما، وفي زمان له كذلك خصوصيته، ثم إن كل ذلك على مرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن يكفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بشكل من الأشكال ليكون الإنشاد جائزا زمانا ومكانا، وإذا جاز ذلك جاز من باب أولى في غيرهما. وأما اعتراض عمر رضي الله عنه فلا يبعد عن تلك الخصوصية: خصوصية الزمان والمكان والرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال مستنكرا فعل ابن رواحة: ((يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟)). والملاحظ أن اعتراض عمر رضي الله عنه وإنكاره لا يتوجه إلى الشعر في ذاته)) بل إلى المقام والمناسبة. وأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ((خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل))، فله مساران: الأول اتجاه عمر: ((خل عنه يا عمر))، وفيه دعوته إياه بأن يترك عبد الله وشأنه، وفيه ملمح لطيف هو أنه استعمل فعل: ((خل)) المناسب لفعل ((خَلُّوا)) المستعمل من لدن ابن رواحة. والثاني اتجاه الشعر: ((فلهي أسرع فيهم من نضح النبل))، وفيه إثارة الانتباه إلى أهمية هذا الشعر في هذا المقام وبهذه المناسبة، وإذن فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم إنشاد عبد الله بن رواحة قولا وفعلا. ولابد هاهنا بمناسبة الجواب النبوي من وقفتين: الأولى لفهم كلامه، والثانية لفهم الشعر الذي قيل فيه. أما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل فيه ذلك الشعر ((أسرع فيهم من نضح النبل))، وفيه مسألتان: مقارنته بنضح النبل، وجعله أسرع منها، وحسبنا هذا هنا، وستكون لنا وقفة أخرى مع شبيه له في حديث قادم بحول الله تعالى. وأما الشعر الذي أنشده ابن رواحة فقد تضمن أمرين: أولهما دعوته قريشا إلى أن تخلي عن سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لخص هذه الدعوة في الشطر الأول من البيت الأول، وهذه التخلية تحتمل معنيين: تخلية خاصة بالعمرة، فيكون شعره عندها طلبا لأن تمر العمرة بسلام بناء على الاتفاق الموقّع في صلح الحديبية. وتخلية عامة، بأن تَترك قريش النبي صلى الله عليه وسلم وشأنه ليبلغ أمر ربه، ومن ذلك أن يبلغه بمكة. ويمكن الجمع بين الأمرين أيضا)) لأن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عمرة فقط)) بل كانت كذلك دعوة في مكة لأول مرة منذ الهجرة، وقد انتقل المسلمون من حال الضعف إلى حال القوة والتمكين، وعادوا إلى مكة ليعبدوا الله فيها بعد أن حوصروا فيها وطوردوا وعذبوا… وأما الأمر الثاني فهو تهديد لقريش وتوعدها بما سيلحقها، وقد ضمّنه باقي البيتين، وفيه تركيز على الضرب، وعلّته (الضرب على التنزيل)، وطبيعته وأثره: (يُزيل الهامَ عن مَقيلهِ، ويذهل الخليل عن خليلـهِ). فشعر ابن رواحة وفق ذلك يُبلغ قريشا رسالة هي أن المسلمين وإن كانوا بمكة إلا أنهم غير خائفين)) بل هم مستعدون لأي تصرف يصدر عن قريش يَحُول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء لأجله. ثم إن هذا الشعر نفسه يَجمع بين الجهاد والدعوة)) لأنه يكشف لقريش ارتفاع معنويات المسلمين واستعدادهم، وما فَعَله الإيمان بهم، ثم يكشف لهم بالمقابل ما فعله الكفر والتعنت بقريش، وشعْرٌ هذه صفته وتلك وظيفته حري أن يوصَف بما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يُدافَع عنه، ويُفسَح له المجال ليَسيح في الأرض. ——– (1) – صحيح سنن الترمذي، 3/136، حديث رقم 2847، ك.الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر. قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه… وروي في غير هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وكعب بن مالك بين يديه, وهذا أصح عند بعض أهل الحديث)) لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة القضاء بعد ذلك))، قلت: وهو سهو من الترمذي رحمه الله، وإنما كانت مؤتة بعد عمرة القضاء، لا قبله.

د. الحسين زروق

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>