الخطبة الأولى
عباد الله:إن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميزة شخصيته الكبرى، حتى أنه ليحدد مهمة رسالته بقوله: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.. والواقع أننا لا نستطيع أن نأخذ صورة كاملة عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا إذا فهمنا القرآن والسنة، فلقد “كان خلقه القرآن”.. وقد بين عليه الصلاة والسلام أهمية الأخلاق فقال: ”إن المؤمن ليبلغ درجة القائم الصائم بحسن الخلق”.. عباد الله: نختار اليوم من هذه الأخلاق، خلق الرحمة، حيث يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). هذا وصف للحبيب صلى الله عليه وسلم بأنه هو الرحمة بذاته.. فخلق الرحمة صفة ممزوجة بكيانه ومقتبسة من رحمة الرحمن الرحيم، يقول تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّيَ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الحجر: 49). في هذه الآية بدأ سبحانه بالمغفرة والرحمة قبل العذاب، وطلب من رسوله أن يخبر قومه بذلك، فهذا منهج رباني، فإذا كانت رحمةُ الله قد سبقت غضبَه، فإن رحمة الله عمت الكافرين والمؤمنين فعلا، لذا أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون صورة لحكمه، فهو رسول منه بالرحمة إلى خلقه، يتكلم بالرحمة، ويدعو إلى الرحمة، فيقول: “الراحمون يرحمهم الله الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، ويقول: “من لا يرحم لا يرحم”، ثم يقوم هو بتطبيق الرحمة على أعلى مستوى، فهو في بيته يرحم الصغير والكبير، ويساعد زوجته؛ فيكنس البيت ويرقع الثوب ويكون في مهنة أهله، كان يفعل ذلك ويقول: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. عباد الله، هناك مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفارقه رحمته، يُؤذى ويُضرب ويُضطهد فيقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، ويوم فتح مكة وقد فعلت به ما فعلت، كان موقفه غير المتوقع كما قص عمر رضي الله عنه حين قال: “لما كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام، قال عمر رضي الله عنه: فقلت: لقد أمكن الله منهم لأُعرفنهم بما صنعوا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، قال عمر: فافتُضحتُ حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن يكون بدر مني، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. في المَواطن التي تُغلب فيها عادة عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار تبقى صفة الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلها لا تطغى على غيرها ولا يطغى غيرها عليها . وكان صلى الله عليه وسلم يرحم حتى الصغار، بل ويحرص على ذلك، يقول أسامة بن زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ويقول: “اللهم ارحمهما فإني أرحمهما”، لقد كان أرحم الناس بالصبيان والعيال. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من وَجد أمه من بكائه”. بل إن رحمتَه صلى الله عليه وسلم قد شملت الحيوانات والطيور، لقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على مشاعر الحيوان والطير، فقد رأى رجلا أضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد سكينه والشاة تنظر إليها، فتأثر صلى الله عليه وسلم بهذا المنظر وقال له: “أتريد أن تُميتها مَوتات؟! هلَّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها”. ويرى صلى الله عليه وسلم أبا مسعود البدري يضرب غلاما له، فيناديه: “اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام”، فيقول أبو مسعود: يا رسول الله ! أشهدك أني قد أعتقته لوجه الله، فيقول له رسول الرحمة: “أما لو لم تفعل للفحتك النار”، أي: لو لم تفعل لأدخلك الله جهنم بسبب ضربك لهذا الغلام. عباد الله: يجب أن نعود إلى منهج الله عز وجل ونطبقه كما فعل ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام. علينا أن نرتبط بذلك، وأن نعود إلى فهم ديننا وإلى تربية مجتمعنا تربية تليق بخير أمة أخرجت للناس، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران: 110). فاللهم ارحمنا برحمتك، واجعلنا من الرحماء.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
عباد الله:لقد أرسل الله رسوله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه القرآن ليكون أيضا رحمة للعالمين، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ انفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُومِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128). عباد الله: إن المنهج الذي أُنزل على رسول الله هو منهج رحمة وعدالة، وهو منهج سعادة، فإذا استطاع الرسول أن يطبق المنهج كما أمره الله، وإذا كانت نفسية الرسول مطبوعة على الرحمة فإن أتباع هذا الرسول لن يجدوا منه ولا من تشريع الله لهم إلا الرحمة، فالرحمة في المنهج موجودة، والرحمة في القيادة موجودة، والرحمة في الحكم موجودة، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء. فهل تستطيع الأمة أن تستوعب المنهج؟ أن تفهم القرآن على أنه كتاب رحمة؟ هل تستطيع الأمة أن تَدرس حياة رسولها لتدرك أن جميع خطوات هذا الرسول كانت رحمة؟ وهل إذا دَرست سيكون عندها استعداد أن تطبق كتاب الرحمة ومنهج رسول الرحمة على نفسها؟ وتطبق الرحمة في بيوتها؟ وتطبق الرحمة في مجتمعها؟ وتطبق الرحمة في العالم من حولها؟ فهل أخذنا عن رسول ربنا تلك الرحمة أم قلنا كما قال غيرنا: آمنا واستقمنا، ثم عشنا بقلوب جاهلية ونفوس شيطانية، يأكل القوي منا الضعيف، ويسحق الغني منا الفقير، ويشعر المحتاج فينا أن الأرض ضاقت عليه حين يعيش بين المسلمين، وأن الكتاب الذي يتلى لا يفكر الناس فيه إلا من باب مصالحهم، وأن الرسول الذي يحتفل بذكراه كذبا وزورا لا يفكر الناس به إلا من خلال مطامعهم الشخصية فقط، أما أن يقتل الإنسانُ الأنانية في نفسه، وأن يُنصف الناس من نفسه، وأن يكون رحيما يشعر بشعور المنكوبين واليتامى والفقراء والمظلومين والمضطهدين فقليل من يهتم بذلك ويعبأ به؟ علينا عباد الله: أن نتعلم جميعا أن لمسة حنان وعطف ورحمة على رأس يتيم قد تدخلنا الجنة، وأن دعاء أرملة نحسن إليها فننقذها من الانحراف ومن الحاجة للناس قد تدخلنا الجنة. عباد الله، إن الذي رحم كلبا غفر الله له، فما بالكم بمن يرحم إنسانا مؤمنا؟! إن الذي يريد رحمة الله ويطمع فيها عليه أن يكون رحيما، رحيما بكل شيء، ولنعلم أيها المسلمون، أنه بمثل معاملتنا للناس فسوف يعاملنا الله يوم القيامة، فإن رَحِمْنَا الناس رحمنا الله تعالى، وإن لم نرحمهم فلن تشملنا رحمة الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي” “الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، ويقول: “من لا يرحم لا يرحم”. اللهم املء قلوبنا بالرحمة واجعلنا رحمة للعالمين… اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر…
ذ. محمد بوهو