بعد عرض صور حب الله للعبد وحب العبد لله عز وجل نذكر حب الإنسان لما سوى الله -عز وجل-، وهو من مستويات الحب الذي ورد ذكره في القرآن الكريم. وحب الإنسان لما سوى الله عز وجل خاصية طبيعية جُبل عليها الإنسان، وعاطفة لا إرادية تعبر عن ميل إلى الشيء المحبوب، لكن الله عز وجل لم يترك هذه العاطفة الفطرية دون توجيه، وبتدبرنا لكتاب الله عز وجل نجد صورا مختلفة من حب الإنسان لما يحيط به من أشخاص وأشياء، لكل صورة منها معنى وحكم في ميزان الله تعالى:
- من صور هذا الحب الإنساني: حب النساء، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالاَنْعَامِ وَالحرْثِ…}(ال عمران : 14)، وحب النساء أمر جُبل عليه الرجال، نظرا لما يترتب عليه من مقاصد عالية في مقدمتها التزاوج الذي يكفُل بقاء النسل واستمرارية النوع الإنساني، ولذلك لم يتردد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في التعبير عن حبه للنساء في الحديث الصحيح الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه : (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقد عبر القرآن عن الحب في هذا السياق بالمودة: {وَمِنْ اَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ اَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم : 20). والمودة من الوُدّ وهو الحب الذي تكتنفه الرقة والرأفة والرحمة، وقد وُصف الله -عز وجل- بالوَدود في تلازم مع وصفه بالغفور والرحيم: {وهو الغفور الودود}(البروج : 14)، {إن ربي رحيم وَدود}(هود : 90)، كما جاء في صفات أهل الإيمان أن الله عز وجل سيجعل لهم وُدا: {إنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}(مريم : 97). ومما جاء في وصف حب النساء على وجه الذم ما عبر عنه بلفظ الصبوة، وذلك في قوله الله -عز وجل- على لسان يوسف عليه السلام: {وإلا تَصرفْ عني كيدَهن أصبُ إليهنَّ وأكنُ من الجاهلين}(يوسف :33)، وفي مقابل ذلك جاء وصف حب المرأة للرجل باستعمال لفظ الشغف في سياق قصة يوسف ووصف حال امرأة العزيز في حبها له عليه السلام: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}(يوسف : 30) : أي دخل حُبه تحت شغاف قلبها كما جاء في التفسير، وهي – في هذا السياق- صورة مذمومة للحب الذي يرمي بصاحبه في مزالق الشهوات المحرمة. ومن الألفاظ المقاربة لهذا المعنى: الهوى، وهو يستعمل في القرآن الكريم في ما يذم من الحب، وفُسِر بشهوة النفس وما يجري مجراها، لذلك وجب الابتعاد عنه: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(النساء : 134).
- ومن صور الحب الإنساني: حب المؤمنين بعضهم بعضا، وهو من مقتضيات الإيمان التي أشار إليها حديث حلاوة الإيمان السالف الذكر: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، ولعل من أنبل صور هذا الحب الإنساني ذلك الذي تمثل في حب الأنصار للمهاجرين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالاِِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُوثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9)، ويحفظ لنا التاريخ مظاهر عجيبة لهذا الحب الذي جعل سمة من سمات الأخوة، إنه الحب في الله الذي لا يرجو المحب من ورائه مصلحة ولا حاجة، بل يرجو به رضا الله، وهذا من أسمى أنواع الحب الإنساني وأرقاه.
- ومن صور الحب الإنساني: حب الإنسان للمال، وهو نوعان: نوع يهتدي معه صاحبه إلى وجوه البر المحمودة فينفق من المال مع حبه له: {وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(البقرة : 176)، ويأتي ذلك امتثالا للقاعدة الربانية المقررة في الإنفاق: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران : 91). ونوع يضل صاحبه به حين يبالغ في حبه للمال مع الإعراض عن إكرام اليتيم وإطعام المسكين: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّاً}(الفجر : 19- 22).
- ومن صور هذا الحب: حب الحياة الدنيا، ولما كان حب الحياة أمرا طبيعيا؛ إذ هي التي جعلها الله مجالا لاستخلاف الإنسان، فإن القرآن الكريم ركز على الوجه السلبي في حب الإنسان للدنيا، وذلك هو ما عبر عنه بلفظ أبلغ من الحب وهو الاستحباب، الذي يدل على تحري الإنسان لما يحب، وإذا تعدى فعل “استحب” ب “على” دل على الإيثار، وبهذا المعنى ورد ذكر استحباب الدنيا على الآخرة وما ينتج عنه من ضلال: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}(إبراهيم :4)، وورد ذكر استحباب الكفر على الإيمان، والعمى على الهدى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(فصلت : 16). وكلها صور من الحب اختل فيها ميزان العدل والقسط بين حب الدنيا والآخرة. ذلك غيض من فيض مفهوم المحبة وما يكتنفه من دلالات ترشدنا إلى التصور السليم للمحبة: محبتنا لله – عز وجل- ومحبة الله سبحانه وتعالى لنا، ومحبتنا لبعضنا البعض، وللدنيا وما فيها من نعم وشهوات، وقد بين الله -عز وجل- في كتابه وعلى لسان نبيه موجهات وشروط وقواعد كل نوع من المحبة يضيق المقام عن بسطها، وحسبنا ما أوردناه من إشارات…
دة. فريدة زمرد