مع كتاب الله عز وجل – مفهوم قسوة القلوب


القسوة غلظ القلب، وأصله من حجر قاس(1)، ومدار القسوة على الشدة والصلابة(2) ولقد وردت القسوة في القرآن الكريم في سبعة مواضع، ولم ترد إلا متصلة بالقلب إسنادا أو وصفا، وهذا يدل على كون القسوة في القرآن الكريم مفهوما قلبيا صرفا، وهو بمعنى تجاوز القلب عن ذكر الله تعالى، كما يتضح من قوله سبحانه : {أفَمَنْ شَرَح اللهُ صدرَه للإسلام فهو على نور مّن ربه فويل للقاسية قلوبُهُم من ذِكْر الله أولئك في ضلالٍ مُّبين اللهُ نزَّل أحسنَ الحَديثِ كِتَاباً مُّتَشابهاً مثَانيَ تَقْشَعِرُُّّ منهُ جُلودُ الَّذين يَخْشوْن ربهم ثم تَلينُ جلودُهُم وقُلوبهُم إلى ذكر الله}(الزمر : 221). هذا النص يضع القسوة عن ذكر الله مقابلة لليونة الجلود والقلوب إلى ذكر الله، ثم إن قسوة القلوب -كما يتضح من جميع نصوصها- أمر طارئ على القلب إما بسبب طول الأمد كما في قوله عز وجل: {أَلمْ يانِ للّذين آمنُوا أَنْ تخشع قلوبهم لذكر الله وما نَزَلَ مِن الحقِّ ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فطالَ عليْهمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قلوبهُم وكثيرٌ منْهم فاسقون اعْلَمُوا أنَّ اللهَ يُحْيي الأرض بعْدَ مَوْتِها قد بَيَّنَا لكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلون}(الحديد : 15- 16). أو عقابا من الله تعالى كما في قوله سبحانه: {فَبِما نَقْضِهم ميثاقَهُم لعَنَّاهُم وجَعَلْنا قلوبَهُم قاسيةً}(المائدة : 14). ومن موارد مصطلح قسوة القلوب نستخلص أن من اتصف بهذه القسوة يصبح عرضة للفتنة ومحلا لعمل الشيطان كما في قوله سبحانه: {لِيَجْعَل ما يُلْقي الشَّيطانُ فِتنةً للذين في قلوبهم مرَضٌ والقاسِيَةِ قُلوبهم وإنَّ الظالمين لَفِي شِقاقٍ بعيد}(الحج : 51). من خلال ما سبق؛ فإن للمفهوم خصائص منها: > أن القسوة مصدرها القلب. > أن قسوة القلب تكون بمجاوزة عن ذكر الله تعالى. > أنها مقابلة لليونة القلب إلى ذكر الله تعالى. > أنها طارئة على القلب إما بسبب طول الأمد أو على وجه العقاب. > أن المتصف بها يصبح فريسة للشيطان ومحلا لفتنته. إذا كان الأمر كما سبق، فإن الخط الرابط بين قسوة القلوب والمعصية يكون خطا مزدوجا، وذلك يمثل كالآتي: وازدواج الخط الرابط بين المفهومين يعني أن قسوة القلوب تؤدي إلى العصيان، كما أن العصيان بدوره يؤدي إلى قسوة القلوب وذلك على سبيل العقاب. وشاهد الأول قوله تعالى: {لِيَجْعلَ مَا يُلْقِي الشيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذينَ في قُلوبِهِم مرضٌ والقاسيَةِ قُلوبهم}(الحج : 51). وشاهد الثاني قوله سبحانه: {فَبِما نَقْضِهِم ميثاقَهُم لَعَنّاهم وجَعَلْنا قُلوبهُم قاسِيَةً}(المائدة : 14). ونحن قد عرفنا أن قسوة القلوب تكون بمعنى المجاوزة عن ذكر الله تعالى، لذلك فإن هناك علاقة واضحة بين عدم الاتعاظ بالذكر وبين قسوة القلوب المؤدية إلى الوقوع فيما يغضب الله عز وجل. ولكي نقترب من هذه العلاقة، سنعرض قوله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {أَلمْ يانِ للّذين آمنُوا أَنْ تخشع قلوبهم لذكر الله وما نَزَلَ مِن الحقِّ ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فطالَ عليْهمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قلوبهُم وكثيرٌ منْهم فاسقون اعْلَمُوا أنَّ اللهَ يُحْيي الأرْضَ بعْدَ مَوْتِها قد بَيَّنَا لكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلون}(الحديد : 15- 16). إن الله تعالى قد استبطأ قلوب المؤمنين(3) فعاتبهم على عدم خشوع قلوبهم لذكر الله تعالى، “والخشوع يتضمن معنيين: أحدهما التواضع والذل والثاني: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضا” (4)، وعتابهم يقتضي تحذيرهم من الفسوق الناتج عن قسوة القلوب(6)، وذكر الله هنا يعني مواعظ الله(7)، أو” ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم، ويحتمل أن يكون المعنى: لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم” . فكما أن الذين أوتوا الكتاب لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، أي: قل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى المعاصي، فإن من لم يخشع قلبه لذكر الله معرض لذلك أيضا. إن خشوع القلب لذكر الله بعد قسوته شبيه بحياة الأرض بعد موتها، وذلك ما يقرره قوله تعالى: {اَعلموا أنَّ اللهَ يُحْيي الاَرض بعْدَ مَوْتِها قد بَيَّنا لكم الآيات لَعَلّكم تَعْقِلون}(الحديد : 16)، وعنصر الحياة في هذه الصورة هو ذكر الله الذي يلين القلب ويشرح الصدر. وهذا الاقتران بين ذكر حياة القلب بالذكر، وحياة الأرض بالماء من جهة ومقابلته بقسوة القلوب من جهة ثانية ورد- بالإضافة إلى نص الحديد- في سورة الزمر، في قوله تعالى : {اَلم تَرَ أنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فسَلَكَه ينابيعَ في الاَرض ثم يُخْرِج به زَرْعا مختَلِفا اَلوانه ثم يَهيجُ فَتَرَاه مُصفرا ثم يجعله حُطاماً إن في ذلك لَذِكرى لأولي الاَلْباب اَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للاِسلامِ فَهُو على نورٍ مِّن رَبّه فَوَيْلٌ للقاسيةِ قُلوبهُم من ذِكْر الله أولئك في ضلال مُّبينٍ الله نَزَلَ أحسنَ الحَديثِ كِتاباً متَشابهاً مَثاني تَقْشَعِرُّ منْه جُلود الذين يخشون ربهم ثم تَلِينُ جلودُهُم وقُلوبهم إلى ذِكْر الله}(الزمر : 20- 22). فالتشبيه واضح بين تنزيل الماء من السماء، وتنزيل أحسن الحديث أيضا، ثم الفرق في الاستجابة لهذا الحديث واضح بين من في قلبه لين وخشوع، ومن في قلبه قسوة تمنعه من الاتعاظ بما نزل من الحق، كما أن نزول الماء من السماء، يثمر في مكان دون غيره ممن تربته حجارة قاسية، كما قال سبحانه في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل: {ثم قَسَت قلوبكُم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اَشَدّ قسوةً}(البقرة : 73). من خلال ما سبق يظهر جليا أن طول الأمد يعد من أسباب قسوة القلوب، وأن من قسا قلبه يوشك أن يصبح من الفاسقين الخارجين عن طاعة الله عز وجل. لكن هذا التلازم بين قسوة القلوب والفسوق يكون من وجهين: > الأول: وهو المرتبط بالنصوص السابقة استنادا إلى أسباب نزول بعضها (8)، ويكون باعتبار الذكر المقصود هو القرآن الكريم، وأن من اتصف بقسوة القلب لا يتعظ به، ثم ينتج عن ذلك ابتعاده عن هديه، ومن ثم وقوعه في المعصية. > الثاني: ويكون بحسب اعتبار القسوة حالة من حالات القلب الذي يخلو من ذكر الله تعالى، والذكر المقصود هو ضد النسيان(9)، أي أن من قسا قلبه ينسى الله فينساه الله تعالى، ومن ثم يخطو على غير هدى، فيضل عن سبيل الله تعالى، وهذا ما نجده في قوله سبحانه: {يا أيُّها الذين ءاَمَنُوا اِتقوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لغدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خبيرٌ بِمَا تَعْملون ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ فأنْساهُم أنفُسَهُم أولئك هم الفاسقون}(الحشر : 18- 19). والخلاصة أن القلب متى انشغل عن ذكر الله تعالى، حصلت فيه قسوة تبعده عن طاعة الله وتجعله عرضة لطاعة الشيطان، ومن هنا يفهم حرص القرآن الكريم والحديث الشريف على بيان أهمية الذكر ومكانة الذاكرين.

دة. كلثومة دخوش
—-
1- المفردات /قسو.
2- المقاييس /قسا.
3- أو المنافقين حسب الخلاف في سبب نزول الآية، انظر أسباب النزول ص:227 ومعاني القران-الزجاج5/ 125 وتفسير الخازن 4/7/34.
4-ابن تيمية، كتاب الايمان، ص:50.
5- عن الحسن رضي الله عنه : “أما والله لقد استبطأهم وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر منكم من الفسق” الكشاف 4/64. وقال الرازي في تفسير الآية: “وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر” مفاتيح الغيب15/29/230.
6- الخازن 4/7/34.
7- المحرر الوجيز، ابن عطية 5/264.
8- كما هو الحال في آية الحديد حيث قال ابن مسعود: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين و “عن ابن عباس رضي الله عنهما: “أن الله استبطأ قلوب المومنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القران “وعن الحسين رضي اله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرأون من القران أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما طهر فيكم من الفسق، وعن أبي بكر رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: “هكذا كنا حتى قست القلوب”. الكشاف -4/64. (9) قال الراغب: “قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ” المفردات /ذكر.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>