روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحَسَّانَ منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
كانت لنا في الحلقة السابقة وقفة مع القسم الأول من الحديث الذي رواه أبو داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وفي هذه الحلقة ستكون لنا -بحول الله- وقفة مع القسمين الآخرين. وأما القسم الثاني وهو فعل حسان: ((فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وعند الترمذي ((يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وعند الإمام أحمد ((ينافح عنه بالشعر))، ففيه أمور:
> منها أن حسان بن ثابت فهِم ذلك التشريف حقَّ الفهْم، وعرَف الوظيفة التي كُلف بها حق المعرفة، ويُحتمَل أنَّ في الحديث محذوفا دل عليه المذكور، وأن أصل الكلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَضع لحسان منبرا في المسجد، ويكلفه بالرد على المشركين، فيقوم عليه يهجو مَن قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
> ومنها أن حسان بن ثابت كان يقوم على هذا المنبر كما يقوم الخطيب. > ومنها أنه خَصَّ هذا المنبر بالشعر الذي تضمن شيئين: الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجاء المشركين والرد عليهم، وأما باقي شعره فلم تكن له علاقة بهذا المنبر، وهذا السياق. > ومنها أن فِعل حسان ارتبط بسياق المعركة الشعرية التي دارت بين المسلمين وغيرهم.
> ومنها أن روايات الحديث عبَّرت عَنْ فِعل حسان بـ”يهجو” و”يفاخر” و”ينافح”، والجمع بينها ممكن، إذ يُفهم منها أنه كان يهجو منافحا ومفاخرا. > ومنها أن هذا الشاعر مارس ثلاثة أغراض -على الأقل- على المنبر في المسجد، وهي: المدح (مدح النبي صلى الله عليه وسلم)، والفخر (بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام)، والهجاء (هجاء مَن قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم). > ومنها أن هجاء حسان اتجه في مسار واحد، وهو مَن قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يفيد أن مَن لم يَقُلْ فيه لم يَهجه. وإذاً فقد فَهِم حسان المطلوب، وتحمل المسؤولية، وأدّاها، ومارس تلك المهمة داخل المسجد على ذلك المنبر بذلك الوعي، ولم يسمح لنفسه أن يُحَوّل ذلك المنبر وتلك المناسبة إلى فضاء لتصريف باقي شعره. وأما القسم الثالث وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وعند الترمذي ((إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر- أو ينافَح- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وعند الإمام أحمد: ((إن الله عز وجل ليؤيد حسان بروح القدس ينافح عن رسوله صلى الله عليه وسلم))، ففيه أمور:
> أولها تعبير النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن الدور الذي أداه ويؤديه حسان على المنبر في المسجد.
> وثانيها إشعار لحسان بأنه مؤيد في الأرض وفي السماء: أما في الأرض فظاهر من العناية التي حظي بها بما في ذلك تخصيصه بالمنبر في المسجد. وأما في السماء فلتأييد الله عز وجل له بجبريل عليه السلام.
> وثالثها إشعار لغير حسان بمكانة حسان وفضله، وهو ما حفظته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد روى الإمام البخاري عن عروة بن الزبير: ((كانت عائشة تكره أن يُسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمدٍ منكُم وقَاءُ (1).
> ورابعها ربْط التأييد الإلهي بالمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعْله شرطا له، وأن التأييد نتيجة لذلك الدور الشريف. > وخامسها أن ذلك التأييد غير مقيد بذلك المنبر أو بالقول في المسجد؛ بل هو مقيد بنوع الشعر الذي ينشده حسان، وفيه أن شعره الذي قاله في غير ذلك المكان لكن في الموضوع نفسه له الحكم نفسه، فهو مؤيد بما في شعره من ذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام والمسلمين سواء أكان على المنبر أم لا، وسواء أكان في المسجد أم لا، فالشرط الوحيد للتأييد أن يكون شعره منافحة. ومما يستفاد إجمالا من الحديث بأقسامه الثلاثة: – أن الشعر غير مرفوض في المسجد، ولكنه في الوقت نفسه غير مقبول بإطلاقه، فنَعَم للشعر في المسجد ولكن بشروط، وقد رأينا عددا منها في أحاديث سابقة. – وأن الشعر النظيف مبارك فيه، والشاعر مؤيَّد فيه، مأجور عليه، ومنه يُفهم أن على الأمة أن تُجيد استعمال هذا الفن-وغيره من الفنون- حماية لذاتها، ودفاعا عن كينونتها. – وأن الشاعر المؤمن القوي في شعره يجب أن يحظى بالعناية، وأن يُمكَّن له ليخدم أمته بشِعره، وليجعل موهبته رهن إشارتها.
د. الحسين زروق
————-
1- صحيح البخاري، 3/51، حديث رقم 4141، ك.المغازي، ب. حديث الإفك.